الثقافة الحزبية رافعة التحديث السياسي
ميس القضاة
08-10-2025 10:33 PM
حين وجّه جلالة الملك عبدالله الثاني بتشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، كان يؤسس لمرحلة جديدة من الوعي السياسي في الأردن، تتجاوز حدود القوانين والإجراءات إلى بناء ثقافة وطنية قائمة على المشاركة، والمواطنة الفاعلة، والعمل الجماعي المنظم. أراد جلالته أن يكون التحديث مشروعًا وطنيًا طويل المدى، ينقل الحياة السياسية من الطابع الفردي إلى الإطار الحزبي البرامجـي، حيث يصبح الانتماء الحزبي فعلًا وطنيًا ومسؤولية تجاه المصلحة العامة.
في هذا الإطار، تبرز الثقافة الحزبية كرافعة أساسية لإنجاح مسار التحديث السياسي، فالقوانين مهما بلغت من الدقة، تبقى عاجزة عن إحداث التغيير المنشود إن لم تُترجم إلى وعي وسلوك وممارسة. الثقافة الحزبية هي التي تمنح النصوص روحها، وتحول الإصلاح من قرارٍ رسمي إلى ممارسة مجتمعية نابعة من القناعة، إنها الوعي الذي يجعل المواطن يدرك أن الحزب ليس ساحةً للخصومة، بل منصة لتنظيم الجهد الوطني، وصياغة الحلول للقضايا العامة بروح تشاركية ومسؤولة.
ولأن التحديث السياسي لا يكتمل إلا بوعيٍ حزبيٍّ ناضج، فإن الأحزاب تتحمل اليوم مسؤولية كبيرة في بناء هذه الثقافة داخل المجتمع حيث يبدأ ذلك من داخلها، من خلال ترسيخ الممارسات الديمقراطية الداخلية، وإشاعة الحوار والمساءلة، وإتاحة الفرص المتكافئة للأعضاء في التعبير والمشاركة وصنع القرار. فالحزب الذي يطبّق الديمقراطية داخل صفوفه، يصبح أقدر على تجسيدها في الحياة العامة، ويقدّم نموذجًا عمليًا للمواطنة المسؤولة.
كما يقع على الأحزاب دور أساسي في الانفتاح على المجتمع وتقديم فكرها وبرامجها بلغة قريبة من الناس، تربط بين الرؤية السياسية واحتياجات المواطن اليومية، فالثقافة الحزبية لا تُبنى في البيانات والمؤتمرات فقط، بل في التفاعل الميداني مع المواطنين، وفي قدرتها على مخاطبة العقول لا الغرائز، والمصالح الوطنية لا الفئوية. إن الحزب الذي يخرج من مقراته إلى الشارع، ويستمع قبل أن يتحدث، هو الذي يرسخ الوعي الحزبي الأصيل القائم على الثقة والمصداقية.
ويأتي تأهيل الكوادر الحزبية خطوة محورية في هذا المسار؛ فبناء الوعي لا يتحقق من خلال الشعارات، بل عبر التدريب، والتثقيف، والمراكمة المعرفية. الأحزاب مطالبة اليوم بإعداد جيل من القيادات الشابة القادرة على التفكير والتحليل ووضع الحلول، لا على التلقين والتكرار. فكل حزب يمتلك كوادر مؤهلة فكريًا وتنظيميًا، يسهم في رفع منسوب الوعي الوطني العام، ويدفع بالمجتمع نحو ممارسة سياسية أكثر نضجًا ومسؤولية.
إن بناء ثقافة حزبية واعية يتطلب أيضًا من الأحزاب أن تكون نموذجًا في الشفافية والانفتاح، وأن تمارس الرقابة الذاتية قبل أن تطالب بها غيرها. فالثقافة الحزبية لا تنفصل عن الأخلاق السياسية، ولا عن الإيمان بأن العمل الحزبي هو شكل من أشكال الخدمة العامة لا وسيلة للسلطة أو النفوذ.
اليوم، ونحن نعيش مرحلة مفصلية في مسار الدولة الأردنية، بات من الواضح أن التحديث السياسي الحقيقي لا يقوم على هندسة القانون فحسب، بل على هندسة الوعي، فالثقافة الحزبية هي هذه الهندسة العميقة التي تُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتجعل من المشاركة السياسية ممارسة يومية مسؤولة، لا مجرد موسم انتخابي.
إن الرهان على الوعي الحزبي هو رهان على المستقبل، فحين تتجذر الثقافة الحزبية في المجتمع، يصبح الحزب مدرسة للوطنية، والمشاركة السياسية طريقًا للتنمية، ويصبح الإصلاح فعلًا مستمرًا نابعًا من داخل المجتمع ذاته، يترجم رؤية جلالة الملك في بناء دولة مؤسسات وقانون، تُدار بالعقل الجمعي لا بالمصادفة، وبالبرامج لا بالولاءات.