facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




تنظيم الظواهر الاجتماعية


الدكتور سمير بينو
20-10-2025 03:13 PM

قبل فترة قصيرة، تشرفتُ برئاسة جاهة كريمة اقتصر عدد أفرادها على نحو عشرين شخصاً من الأقارب والأصدقاء، قصدنا بيت عائلة عريقة وطيبة لطلب يد ابنتهم لشاب من أسرة معروفة وكريمة. كان في استقبالنا عدد مماثل من أهل العروس، في مشهد ساده الهدوء والاحترام والبساطة، بعيداً عن المظاهر والمبالغة.

هذا المشهد، على بساطته، يُجسّد نموذجاً حياً من التنظيم الاجتماعي الذي يميّز المجتمع الشيشاني في الأردن، حيث تُدار المناسبات بروح من الوقار والنية الطيبة، ضمن تقاليد راسخة تعطي للحدث بعداً معنوياً وروحياً يتجاوز الطابع الاحتفالي.

في المجتمع الشيشاني، تُعدّ من أهمّ الأولويات في موضوع جاهات طلب العروس أن تحيط المناسبة روحُ البَرَكة، إذ تُعدّ الخطبة واحدة من الخطوات الأساسية في بناء البيت وتأسيس الأسرة الصالحة.

ومن هنا فإنّ ابتغاء البركة يشكّل جوهر هذا الطقس الاجتماعي، حيث يُنظر إلى الزواج لا بوصفه مجرّد ارتباط بين شخصين، بل حدثاً يجمع بين عائلتين، فيه مودةٌ وقُربى، وفيه سترٌ وعفاف، ليغدو الزواج بداية رحلة تُبنى على البركة والمودة والنية الطيبة.

يُراعى في ذلك اختيار المكان والزمان والإجراءات بعناية والالتزام بالمهر الموحد؛ فالمكان يُختار بما يليق بمقام المناسبة والزمان يُنتقى في أوقات يُستحب فيها الخير وتُرجى فيها الإجابة، أما الإجراءات فتتم وفق تسلسل منظم يعكس الاحترام والتقدير المتبادل بين الطرفين، ويجسد في جوهره الاقتداءٌ بالنهج الربّاني والهدي النبوي.

تبدأ الجاهة بكلمات ترحيب ودعاء، يتبعها الطلب الرسمي باسم العائلة، ثم يُختتم اللقاء بالدعاء بالبركة والتوفيق للعروسين. إنّ هذا الطقس الاجتماعي الشيشاني لا يقوم على المظاهر أو الخطابة المطوّلة، ولا على التفاخر بالأنساب أو الأصول، بل يقوم على النية الخالصة والبساطة والاحترام المتبادل، وهو بذلك يُعبّر عن عمق العلاقة الاجتماعية والروحية التي تجعل من الزواج عهداً مقدّساً قبل أن يكون احتفالاً دنيوياً.

يؤمن الشيشان بأنّ الحضور في الجاهة ليس مجرّد مشاركة رمزية، بل شهادة ومسؤولية في تثبيت الألفة بين العائلتين. فمن يشارك في الطلب يُعدّ شاهداً على المودة وساعيا لاستمرارها، يسعى في الإصلاح إن حدث خلاف، ويدعو بالخير إن تمّ الوصال. وفي ختام اللقاء، يتشارك الحضور دعاءً جامعاً تُستودَع فيه الزيجة بين يدي الله طلباً للسكينة والذرية الصالحة.

يمتاز المجتمع الشيشاني باهتمامه الدائم بعملية تنظيم الظواهر الاجتماعية، سواء ما يتعلّق بمناسبات الأفراح والعزاء، أو بالممارسات اليومية والعلاقات الاجتماعية.

ففي الأفراح، تسود قيم الاحترام والانضباط والكرم، إذ تُنظَّم المناسبات وفق أعراف دقيقة تحدد أدوار الرجال والنساء وتسلسل الخطوات من الدعوة إلى الضيافة، بما يعكس روح الجماعة والتوازن بين الفرح والوقار.

أما في العزاء، فتتجلّى قيم التكافل والتعاطف، حيث تتكاتف العائلات لتقديم العون والدعم، وتُفتح بيوت العزاء عادة من الساعة الرابعة حتى العاشرة مساءً لمدة ثلاثة أيام، تُتلى فيها سورة "يس" ويُرفَع الدعاء للمتوفى. ويُراعى أن يقتصر طعام المواساة على أهل الفقيد فقط، في بادرة تُخفّف الأعباء وتحفظ خصوصية الموقف، تأكيداً على أن المواساة فعل تضامن لا مناسبة اجتماعية.

هذه الضوابط لا تقوم على قوانين مكتوبة، بل على مرجعية أخلاقية وعُرفية متوارثة تُنظّم السلوك العام وتضمن الانسجام الاجتماعي.

فالقيم مثل الكرامة والاحترام والمسؤولية الجماعية، تشكّل إطاراً ضابطاً للسلوك الاجتماعي، وتحافظ على تماسك الجماعة من خلال ضوابطها الداخلية.

وتُثبت هذه التجارب الاجتماعية الأصيلة أن الاعتدال والبركة ليسا تراجعاً عن الكرم أو العادات، بل عودةٌ إلى جوهرها الأصيل؛ جوهر يجعل من المناسبة الاجتماعية مساحة للتآلف لا للتفاخر، ومن اللقاء الإنساني فرصة لتجديد المودة والرحمة.

إنّ تنظيم الظواهر الاجتماعية بهذا الشكل يُمثّل تعبيراً ناضجاً عن وعي ثقافيّ وأخلاقيّ رفيع، يعكس القدرة على الموازنة بين الماضي والحاضر، وبين القيم الدينية الراسخة والأعراف الإنسانية الأصيلة.

هذا النموذج يعبرّ عن مجتمع يُنظّم أفراحه وأتراحه بالعقل والحكمة، ويجعل من البركة أساساً لكل علاقة، ومن البساطة عنواناً للجمال، ومن الاحترام سلوكاً يومياً لا استثناءً.

إنه نموذج يحافظ على القيم الوطنية والاجتماعية ويُصون الكرامة الإنسانية ويواكب في الوقت ذاته متطلبات العصر وتحوّلاته، دون أن يُفرّط في الأصالة أو الهوية الثقافية التي تميّز أبناء هذا المجتمع وتُغني المشهد الأردني بتنوّعه وعمقه الحضاري.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :