رحلة إلى عمق القيادة الوسطى
محمد بلقر
25-10-2025 02:59 PM
في كل منشأة تقف القيادات الوسطى في منطقة التماس بين الرؤية والتنفيذ، بين الخطط الكبرى والتفاصيل اليومية، وبين التوجيهات والطموحات، هؤلاء ليسوا مجرد موظفين في منتصف السلم الإداري، بل هم صمام التوازن الحقيقي في أي منظومة، ومفتاح نجاحها أو تعثرها. ومع ذلك، فإن هذه الفئة لا تزال في كثير من البيئات الإدارية تعاني من تهميش، وكأنها مجرد أداة تنفيذية تفتقر إلى القرار والمكانة.
تمكين القيادات الوسطى ليس شعاراً تدريبياً ولا بنداً في تقرير الموارد البشرية، بل هو إستثمار في قلب المنشأة في عقلها التنفيذي الذي يترجم التوجهات إلى ممارسات، ويحول الرؤية الى أثر ملموس. فحين يمنح هؤلاء مساحة القرار والمساءلة، تتحرك عجلة الإنجاز بدقة واتزان ، إنهم الذين يعيشون تفاصيل العمل اليومية، ويعرفون تفاعلات الفرق ومكامن القوة والضعف، وهم الأقدر على إكتشاف الفرص قبل أن تتحول إلى مشكلات، وعلى تصحيح المسار قبل أن تضطر الإدارة العليا للتدخل.
ورغم أهمية هذا الدور ، إلا أن الواقع يكشف فجوة مؤلمة. فليس جميع القيادات الوسطى مؤهلة بما يكفي لتحمل مسؤولية القيادة، وبعضهم يفتقد الى الخبرة المهنية، أو الادارية التخصصية التي تُمكنه من إتخاذ القرار الصائب. وفي بعض القطاعات الحيوية، نجد أن الكفاءات الوسطى قليلة العدد وغير متوفرة بما يسد الشواغر القائمة، مما يخلق إختناقات إدارية تؤثر على كفاءة الأداء واستدامة العمل. لذلك فإن بناء قيادات وسطى مؤهلة ومدرسة لم يعد خياراً مؤجلاً، بل ضرورة إستراتيجية لضمان التوازن المؤسسي واستمرار النجاح.
الكثير من المؤسسات تقع في خطأ جوهري حين تظن أن التمكين يتحقق بمجرد عقد الدورات التدريبية أو تقديم محاضرات نظرية، الحقيقة أن التمكين يبدأ من بيئة العمل ذاتها، من وضوح الصلاحيات، ومن ثقافة تؤمن بإن الإجتهاد حتى مع الخطأ أفضل من الجمود خوفاً من الخطأ. لا يكفي أن نمنح القيادات الوسطى مسمياتهم الوظيفية، بل يجب أن نمنحهم الثقة والأدوات ليقودوا بفعالية ويبتكروا بحس مؤسسي.
الإدارة العليا ترفع شعار التمكين دون أن تمنح صلاحيات حقيقية، تخلق فجوة أكبر مما تتصور، فالثقة لا تمنح بالتصريحات، بل تبنى بالقرارات والإجراءات. والمؤسسة التي تؤمن بتمكين قياداتها الوسطى لا تخشى من منحم مساحة القرار، لإنها تدرك أن الخطأ الناتج عن المبادرة أكثر قيمة من الصواب الناتج عن الخوف، وأن الثقة المدرسة تصنع ولاءً مضاعفاً ونتائج أكثر رسوخاً.
إن بناء وتمكين القيادات الوسطى هو المعيار الحقيقي لنضج المؤسسة وقدرتها على التطور، فحين يصبح القائد الوسيط شريكا في القرار لا منفذاً له فقط، يتحول العمل الى منظومة حية تتفاعل وتتجدد. عندها فقط يمكن القول إن المؤسسة بلغت مرحلة الوعي الإداري، حيث تُبنى الثقة، وتحترم الكفاءات، ويُمنح كل موقع ما يستحقه من أثر ومسؤولية.
إن المنشأة لا تبنى بالقرارات العليا فقط، بل بالعقول التي تترجمها إلى واقع، والقيادات الوسطى هي صوت التنفيذ الواعي الذي يحفظ التوازن بين الطموح والقدرة، بين الرؤية والعمل، فحين تبنى هذه القيادات على أساس من الكفاءة والثقة، يصبح النجاح المؤسسي حالة دائمة عابرة.