هجرة الكفاءات الأردنية: من تحدٍ إلى فرصة تنموية مشتركة
السفير ماهر لوكاشه
25-10-2025 03:42 PM
أثار تصريح معالي وزير الداخلية الأردني، مازن الفراية، خلال مشاركته في مؤتمر فيينا للهجرة، والذي دعا فيه دول أوروبا إلى فتح قنوات هجرة قانونية للعمالة الماهرة الأردنية في قطاعات حيوية كـ تكنولوجيا المعلومات والصحة، عاصفة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي. فبينما رأى البعض في هذه الدعوة “تفريغاً للكفاءات” وهروباً من مسؤولية إصلاح الداخل، نظر إليها آخرون كـ نافذة أمل تفتح آفاقاً جديدة أمام شبابنا الطموح. إنني أرى في موقف الوزير الفراية رؤية استراتيجية ثاقبة وخطوة جريئة تلامس واقع التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها الأردن، وتستجيب في الوقت ذاته للاحتياجات الملحة للأسواق الأوروبية.
لنتأمل المشهد بعين أكثر واقعية وإنسانية. إن شبابنا الأردني، المسلح بأفضل مستويات التعليم والتدريب، يقف اليوم أمام حائط البطالة. فهل من الحكمة أن نبقي هذه الطاقات معطلة، أو أن نفتح أمامها مسارات آمنة ومنظمة لتحقيق الذات والنجاح في أسواق عالمية متعطشة لخبراتهم؟ إن الدعوة لفتح مسارات الهجرة القانونية ليست قراراً عاطفياً، بل هي مبادرة ذكية متعددة الأبعاد تخدم مصالح الأردن العليا والمصالح الأوروبية على حد سواء.
على الصعيد الاقتصادي، تمثل هذه الخطوة متنفساً حقيقياً لسوق العمل المحلي المكتظ، كما أنها تضمن استمرار تدفق التحويلات المالية للمغتربين، والتي تعد شرياناً حيوياً يدعم الاقتصاد الوطني ويخفف الضغط على العملة الصعبة. أما بالنسبة لأوروبا، فإنها تجد في الكفاءات الأردنية المدربة حلاً جاهزاً لسد النقص المزمن في قطاعاتها المتقدمة، خاصة في مجال الرعاية الصحية وتكنولوجيا المستقبل، دون الحاجة لتحمل تكاليف تدريب وتأهيل باهظة.
ولعل الأهم هو البعد الاجتماعي والإنساني. ففي غياب القنوات القانونية، يجد كثير من شبابنا أنفسهم مضطرين للمغامرة في طريق الهجرة غير النظامية المحفوفة بالمخاطر، معرضين أنفسهم للمساءلة القانونية والإبعاد، بل وفقدان كل ما يملكون. إن فتح مسار قانوني هو بمثابة طريق آمن ومنظم يحفظ كرامة الشاب الأردني ويضمن حقوقه، ويحول حلم السفر والعمل إلى واقع مشروع ومحترم.
كما أن هذا القرار يكتسب أهمية استراتيجية في سياق مشاركة الوزير في مؤتمر دولي يناقش قضايا الهجرة واللجوء. ففي الوقت الذي يتحمل فيه الأردن عبئاً هائلاً باستضافته ما يقارب 3.5 مليون لاجئ من مختلف الجنسيات، فإن من حق الأردن أن يطالب المجتمع الدولي بـ مقايضة عادلة، تحول تحدي الهجرة إلى فرصة تنموية. إنها رسالة واضحة بأن الأردن ليس مجرد مستودع للاجئين، بل هو شريك فاعل يمتلك كنزاً بشرياً من الكفاءات القادرة على المساهمة في التنمية العالمية.
إن من يخشى “تفريغ الكفاءات” يغفل عن حقيقة أن هؤلاء الشباب المغتربين سيصبحون سفراء للخبرة والمعرفة، وستعود خبراتهم المتقدمة، التي اكتسبوها في أرقى البيئات المهنية، لتثري الوطن من خلال الاستثمار أو نقل التكنولوجيا. إنها دورة حياة طبيعية للكفاءات في عصر العولمة، حيث يصبح تصدير الخبرات استثماراً وطنياً طويل الأمد.
في الختام، إننا نؤيد هذه الخطوة الجريئة والواقعية التي أقدم عليها معالي وزير الداخلية. إنها مقاربة براغماتية تضع مصلحة الشاب الأردني في صلب المعادلة، وتدعو إلى تعاون دولي يحول تحدي الهجرة إلى فرصة تنموية مشتركة، مؤكدة أن الأردن يمتلك طاقات بشرية لا تُقدر بثمن، ويجب أن تُتاح لها الفرصة لتشق طريقها نحو النجاح