كيف يصعد الشاب في نيويورك .. ويسقط في عواصمنا؟
د. سعيد المومني
05-11-2025 05:58 PM
لم يكن انتخاب (صادق خان) عمدة للندن قبل أعوام لحظة عابرة كما اعتقد البعض في العالم العربي. يومها قيل إنّها صدفة سياسية، أو موجة ليبرالية مؤقتة، أو محاولة لتجميل صورة الغرب أمام الشارع العالمي. لكن ما لم يُفهم آنذاك، أصبح واضحًا اليوم مع انتخاب عمدة نيويورك الجديد (زهران ممداني)، القادم من خلفية مسلمة وجنوب آسيوية: نحن أمام تحول عميق في وعي المدن الكبرى لا في نتائج صناديق الاقتراع فقط.
لندن، نيويورك، سيدني .. هذه ليست مجرد مدن. هذه مختبرات الحضارة المعاصرة. حيث تُصنع الرموز والمعايير، وحيث يقاس موقع الإنسان لا بحسب أصوله، بل بحسب قدرته على تقديم معنى وفكرة ومشروع.
لكن نيويورك تحديداً تُقدم حالة أكثر دلالة، هي المدينة التي حملت جرح 11 سبتمبر في ذاكرتها. من هذه المدينة وُلدت سردية عالمية جعلت من المسلم "خطراً محتملاً"، ومن الشرقي "موضع شك"، ومن كل من يحمل أسماءنا وملامحنا عنصراً يجب اختباره قبل الوثوق به.
هذه السردية التي حكمت الثقافة والإعلام والسياسة في الغرب لأكثر من عقدين اهتزت وانكسرت. والذي أسقطها لم يكن حوار الحضارات، ولا الحملات الدينية، ولا الدبلوماسية .. الذي أسقطها كان غزة.
غزة حين كشفت وحشية القوة العارية التي لا ترتدي قناعاً، غزة حين دفعت الشارع الغربي إلى إعادة النظر في معنى الأخلاق والعدالة. غزة حين أجبرت الناس على مواجهة إنسانيتهم، بعيداً عن الإعلام الذي حاول صناعة صورة واحدة للحقيقة.
حين وقف المرشح الجديد في نيويورك ليعلن موقفه من الحرب، لم يكن يخاطب جالية مسلمة تبحث عن تمثيل رمزي، بل كان يخاطب ضميراً عاماً جديداً تشكل خلال عامين.
ضمير يفهم أن العدالة لا ديانة لها، وأن الموقف الأخلاقي ليس ترفاً بل معياراً للإنسان الحر. فلم ينتصر "المسلم" فقط، انتصر صاحب المبدأ، انتصر إنسان وقف حيث يجب أن يقف.
هنا بالضبط تظهر المفارقة المؤلمة، فنحن العرب نحتفل بهذا الفوز كما لو كان انتصاراً لنا. نرفع الصور، نتبادل الأخبار، نتحدث بفخر عن نجاح ابننا هناك. ولكن السؤال الصادم:
لماذا لا نسمح لهذا الابن نفسه أن ينجح هنا؟
لماذا يستطيع شاب مسلم أن يصبح عمدة نيويورك، لكنه لا يستطيع في كثير من بلداننا العربية أن يُنتخب رئيساً لبلدية كبيرة؟
هنا تتجلى البنية، لا الأحداث.
ولكن يتبادر للذهن سؤال كيف يصعد الشاب هناك؟ وكيف يُحاصر هنا؟
الشاب الذي نجح في نيويورك لم ينتظر حتى ينضج أو يكبر، لم يُطلب منه الصمت احتراماً للكبار، لم يُقال له: "مكانك ليس الآن".
هناك، يُسمح للشاب بأن يدخل العمل العام مبكراً، من الجامعة، إلى الشارع، إلى التنظيم المجتمعي، إلى البلدية، إلى البرلمان، وصولاً إلى الإدارة العليا. هناك مسار صعود مفتوح، يعتمد على الكفاءة والعمل والتواصل مع الناس.
أما في بلادنا، فالشاب مهما كان واعياً ومؤهلاً وحاملًا لمشروع، يصطدم من اللحظة الأولى بأسئلة لا علاقة لها بالكفاءة:
ابن من؟ من عشيرتك؟ من جماعتك؟ لمن تدين بالولاء؟
وغالباً، يكون دوره السياسي الوحيد هو دور الملحق الانتخابي؛ يصفق ويهلل ويعلق صور مرشح يتجاوز الستين أو السبعين، مرشح يرى في السياسة استمراراً لوجاهته الشخصية لا مسؤولية تجاه مدينة أو مجتمع.
هناك، يُختار الشاب لأن لديه برنامجاً. هنا، يُختار الكبير لأنه لديه مكانة. هناك، المنصب وسيلة لخدمة الناس. هنا، المنصب غاية بحد ذاته. هناك، السياسة عمل ومشروع. هنا، السياسة وراثة وامتياز. لهذا لا تتغير المدن، لا تتجدد الحياة العامة، ولا يظهر جيل جديد قادر على حمل المستقبل.
نحن نطالب شابنا أن يكون طموحاً، ثم نحاصره بكل ما يمنع الطموح. نقول له: "أنت مستقبل الوطن"، ثم نضع الوطن بين أيدي من يعتبرون المستقبل امتداداً لماض لم يعد له مكان.
الشاب هناك يصعد لأن البنية والنظام تسمح بالصعود، والشاب هنا يتعب لأنه النظام مصمم ليمنع الصعود.
الغرب لا يتقدم لأنه أكثر ثراءً، بل لأنه أكثر قدرة على تصحيح الأخطاء، وعلى الاعتراف بما انتهى زمنه، وعلى إعادة فتح الطريق أمام الأجيال الجديدة.
ونحن لا نتراجع لأننا فقراء، بل لأننا أسرى أنماط اجتماعية وسياسية ضيقة، تمنح المناصب باعتبارها غنيمة لا مسؤولية، وموقعاً تكريمياً لا مشروعاً عاماً.
نحن نختار من يمثلنا، لا من يبنينا. ثم نسأل:
لماذا لا تتطور مدننا ومحافظاتنا؟ لماذا تبقى الخدمات متواضعة، والبنية التحتية هشة، والتنمية مؤجلة دائماً؟
لأننا لا نزال نبحث عن "ابن جماعتنا"، بدل أن نبحث عن ابن مدينتنا، وابن مصلحتنا، وابن المستقبل.
حين ينتصر المسلم في نيويورك، لا تحتفل الهوية، بل تنتصر الفكرة. وحين نخسر نحن في عمّان أو القاهرة أو بغداد أو الدار البيضاء، لا نخسر أشخاصاً … بل نخسر فرصة تاريخية لنهوض المجتمع.
السؤال الحقيقي ليس:
كيف نجح المسلم هناك؟
السؤال الحقيقي:
متى نسمح له أن ينجح هنا؟
لأن المسألة ليست في نيويورك ولا في لندن، المسألة فينا نحن.
نحن الذين نغلق الطريق بأيدينا، ثم نرفع أيدينا دهشة أمام الركود. وما لم نكسر هذه البوابات بأنفسنا فلن يكتب مستقبل هنا، ولا مدينة هنا، ولا نهضة هنا .. فالمستقبل لا ينتظر المترددين.