facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




هندسة الشرق الأوسط تبدأ من دمشق


د. سعيد المومني
13-11-2025 12:51 AM

لم تكن زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض مشهداً بروتوكولياً عابراً، بل إعلاناً بأن هندسة الشرق الأوسط في طورها الجديد ستبدأ من دمشق. هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها رئيس سوري إلى قلب السلطة التنفيذية الأمريكية بهذا المستوى من الرمزية السياسية: لغة المكان، ترتيب المقاعد، طبيعة الرسائل، وتوقيت الزيارة جميعها تقول إنّ واشنطن لا تريد إعادة العلاقات مع دمشق فحسب، بل تريد إعادة تعريف وظيفة سوريا في معادلة الإقليم؛ وظيفة توازن لا غنى عنها في نظام إقليمي يتفكك بسرعة.

المغزى هنا أكبر من عودة سوريا بالمعنى التقليدي، فدمشق تُستعاد اليوم كـ “عقدة إقليمية” لا يمكن تجاوزها عند تقاطع الأمن والحدود والممرات الاقتصادية ومسارات الطاقة. ليست عودة قيادة ولا مشروع أيديولوجي؛ إنها عودة وظيفة سياسية، دولة توازن تمنع الانهيار وتسوّق الهدوء الممكن.

لماذا الآن؟

منذ حرب غزة وما تلاها من ارتجاجات إقليمية، بدا أنّ الخطر الفعلي لا يقتصر على القطاع بل يشمل الجبهات المحيطة التي قد تُسرّع الانزلاق: جنوب لبنان، العراق، جنوب سوريا، والضفة الغربية. كل هذه الجبهات تتقاطع سياسياً وأمنياً عند دمشق. من يملك القدرة على مخاطبة دمشق لا يسيطر على المشرق، لكنه يمنع المشرق من السقوط.

لقد أثبت العقد الأخير أن تغييب العراق بعد 2003 ثم تغييب سوريا بعد 2011 لم يصنعا استقراراً بديلاً، بل راكما فراغاً مهدداً. القاهرة مثقلة بأزمتها الاقتصادية، بغداد محكومة بتوازنات متداخلة، ولبنان على حافة الانكشاف المالي والأمني. في هذا السياق، تبدو دمشق مركز ثقل اضطراري يعيد توزيع الأحمال بدل أن يطيح بها.

من خطاب المحور إلى وظيفة التوازن

الزيارة تُعلن انتقال سوريا من خطاب المحور إلى وظيفة التوازن، وظيفة عملية لا تُقاس بالشعارات بل بالقدرة على تثبيت الاستقرار عبر ملفات ملموسة:

ضبط حدود التوتر في الجنوب اللبناني عبر تنسيق غير مباشر يمنع الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.

إعادة توزيع النفوذ الخارجي داخل سوريا بما يضمن استقلال القرار الوطني دون ارتهان لأي محور.

فتح الممرات التجارية ومشروعات الطاقة عبر الأردن وتركيا والخليج، لتحويل سوريا إلى حلقة وصل اقتصادية لا ساحة صراع.

ترسيخ وظيفة الوساطة الأمنية - الاقتصادية بدل الشعارات الأيديولوجية، بما يجعل دمشق مركز توازن لا جبهة مواجهة.

القيود البنيوية الخمسة
لكن أي وظيفة جديدة لا يمكن أن تُمارس خارج القيود البنيوية التي تحدد سقف الفعل السوري. فالدولة الخارجة من حرب طويلة لا تبدأ من فراغ، بل من شبكة معقدة من التحديات التي تشكّل شروط التوازن ذاته. وهنا يمكن تلخيص هذه القيود بخمس دوائر رئيسية:

البنية العسكرية: الجيش السوري اليوم شبكة تنسيق متعددة المناطق أكثر من كونه مؤسسة صلبة، ومعياره الواقعي هو منع التفكك لا استعادة نموذج ما قبل الحرب. وهذا يعني أن قدرة دمشق على إعادة إنتاج الجيش كمؤسسة وطنية ستحدد مستقبل الدولة لا حدودها فقط.

الجنوب السوري: ما زال عرضة للاختراق الإسرائيلي، ودور دمشق هو إدارة المخاطر عبر ترتيبات حدودية تُغلق أبواب التصعيد.

السويداء: تطلب عقداً مدنياً جديداً يضمن الإدارة المحلية ضمن الدولة، ويعيد الثقة بالمركز.

الشمال الشرقي: ازدواج السيادة مع (قسد) يُدار عبر شراكات مرحلية في الطاقة والأمن، بانتظار تسوية أوسع.

الفراغ الأمني في البادية: مكافحة الإرهاب اليوم هي مكافحة الفراغ، لا الأشباح، أي تثبيت الدولة في مناطق كانت رماداً.

أثر الجنوب السوري على الأردن

حين يُقال إن “دمشق عادت إلى المركز”، فإن أول اختبار فعلي لهذه العبارة هو الجنوب: درعا - القنيطرة وشريط التماس حتى معبر نصيب. بالنسبة للأردن، يتحدد الأثر في ثلاثة مستويات مترابطة:

الأمن الحدودي: كل تقدم في ترتيبات إدارة المخاطر جنوب سوريا يُخفّض احتمالات التسرب ويحسن من كفاءة التنسيق الميداني. بالمقابل، أي فجوة إسرائيلية - سورية أو اضطراب محلي في السويداء يرفع الكلفة الأمنية مباشرة على الأردن.

التهريب (وخاصة المخدرات): هو اقتصاد حرب لا يُعالج بالشعارات، بل بترتيبات حدودية دقيقة ومسار محلي يضعف شبكات التمويل والملاذات. نجاح دمشق هنا يعني فائدة فورية للأردن، فما يهرب عبر الحدود ليس البضائع فقط، بل هشاشة الدولة حين تضعف مؤسساتها.

الممرات الاقتصادية: كلما تقدم مسار “سوريا الوسيط” لا “سوريا الجبهة”، انتعشت فرص الربط التجاري عبر الأردن نحو الخليج وتركيا.

الأردن هو أول من يلمس صدقية دمشق، وأول من يدفع ثمن تعثرها. لذلك تُعد الساحة الأردنية مقياساً عملياً لمدى نجاح التحول السوري الجديد.

لماذا أحمد الشرع تحديداً؟

لأن رمزيته السياسية تنبع من داخل التجربة السورية لا من خارجها: ابن الفوضى الذي اختار الدولة، لا ابن الدولة الذي تمسك بالفوضى. ليس استمراراً لنظام سقطت وظيفته، ولا واجهة لمحور خارجي. يعرف المجتمع لأنه خرج منه، ويعرف معنى السلطة لأن بديلها كان الفراغ، ويملك لغة تفاوض قابلة للترجمة مع تركيا والخليج وأوروبا والولايات المتحدة، دون أن تُقفل أبواب التوازن مع اللاعبين الإقليميين.

بهذه المعادلة، لا تعود المشكلة بين واشنطن ودمشق “شخصية”، بل “وظيفية”؛ إذا تغيرت الوظيفة تغير الموقف. ولهذا، فاختيار الشرع ليس مجرد تبديل أسماء، بل تبديل معادلات.

إلغاء “قيصر” .. من العقاب إلى الاستثمار في الاستقرار

في هذا الإطار، يصبح إلغاء “قانون قيصر” إشارة إلى تحول المقاربة من سياسة العقاب إلى الاستثمار في الاستقرار. ليس اعتذارا عن الماضي، بل إدراكاً بأن إنقاذ وظيفة الدولة بات أهم من استعمال انهيارها كوسيلة ضغط. وهذا يفتح مسارات لإعادة الإعمار المرتبطة بالخدمات وتفكيك اقتصاد الحرب وربط سوريا بشرايين التجارة والطاقة.

بين الانتصار والبقاء

لقد اكتشفت العواصم التي حاولت إسقاط دمشق أن غيابها جعل المشرق بلا ميزان، وأن هندسة الاستقرار تمر اليوم من حيث بدأت الفوضى.

سوريا لا تعود إلى التاريخ لأنها انتصرت، بل لأنها الوحيدة التي بقيت واقفة بعد أن انهار الآخرون.

فهل انتصرت سوريا؟ ربما لا بالمعنى العسكري أو السياسي، لكنها انتصرت على الفوضى، وعلى فكرة الغياب نفسها.

ومن هنا، فإن هندسة الشرق الأوسط لن تبدأ من “الخرائط” هذه المرة، بل من إعادة تعريف مركزها: دمشق، التي لم تعد عاصمة حرب .. بل معمل توازن.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :