سفيرة الدمج .. رحلة وعي وقبول
المعلمة هديل الطراونة
29-11-2025 08:49 AM
يُعدّ التعليم الدامج اليوم أحد أهم الاتجاهات التربوية التي تسعى إلى تعزيز العدالة التعليمية وتمكين جميع الطلبة—بمن فيهم ذوو الإعاقة—من التعلم في بيئة مدرسية واحدة تتسم بالقبول والتنوع وتكافؤ الفرص. فالدمج في جوهره ليس مجرد إجراءات تنظيمية أو تعليمات وزارية، بل هو فلسفة إنسانية عميقة تحترم اختلافات المتعلمين، وتمنح كل طالب حقه الطبيعي في التعلم والنمو والمشاركة، ضمن بيئة آمنة يشعر فيها أنه جزء أصيل من المجتمع المدرسي.
من هذا المنطلق بدأت رحلتي كمعلمة في وزارة التربية والتعليم، ومعها تبلورت رؤيتي تجاه الدور الحقيقي للمعلم بوصفه قائدًا للتغيير، وصوتًا قادرًا على إعادة تشكيل ثقافة المدرسة نحو مزيد من التقبل والإنصاف. وعندما التحقت بدبلوم التعليم الدامج في جامعة اليرموك بمنحة من منظمة GIZ، لم يكن الأمر مجرد دراسة أكاديمية، بل نقطة تحوّل في وعيي التربوي؛ فقد اكتسبت معرفة أعمق بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وفهمت احتياجاتهم التعليمية، وتعلمت أدوات عملية تساعدني في تهيئة بيئة صفية دامجة تراعي الفروق الفردية وتحتضن جميع الطلبة دون استثناء.
ومع مرور الوقت، أدركت أنّ المعرفة لا تكتمل ما لم تتحول إلى أثر، وأنّ التغيير الحقيقي يبدأ من الميدان. وهكذا أصبحتُ—بفضل هذا التدريب والثقة التي مُنحت لي—سفيرة للتعليم الدامج في مدرستي والمدارس المجاورة، أحمل رسالة الدمج، وأسعى إلى نشر الوعي بأهمية ثقافة التقبل واحترام الاختلاف. كان هذا الدور امتدادًا طبيعيًا لرسالتي التربوية، وواجبًا إنسانيًا قبل أن يكون مَهَمّة وظيفية.
إنّ حرصي على هذا الدور ينبثق من رؤى جلالة الملك عبدالله الثاني، الذي أولى الأشخاص ذوي الإعاقة اهتمامًا كبيرًا، وأكّد في مناسبات عديدة على ضرورة ضمان حقهم في التعليم في المدارس النظامية جنبًا إلى جنب مع أقرانهم. وقد ترجمت مؤسسات الدولة هذه الرؤية من خلال قانون حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2017، والخطة العشرية 2020-2030 التي أرست أسس الدمج الحقيقي، وأكدت التزام الأردن بتهيئة المدارس وفق معايير الوصول الشامل، وتمكين المعلمين، وتغيير الممارسات التربوية لصالح تعليم أكثر عدلاً وإنصافًا.
وبصفتي إحدى خريجات هذا الدبلوم، أشعر بمسؤولية كبيرة تجاه المجتمع المدرسي. فكل ورشة أقدّمها، وكل نشاط توعوي أقوده، وكل تغيير بسيط أسهم فيه داخل غرفة الصف، هو خطوة نحو تعزيز ثقافة الدمج وترسيخ قيم القبول والاحترام. كما أسعى إلى بناء شراكات مع أولياء الأمور، والجامعات، والمجتمع المحلي، لتكون رسالة الدمج رسالة جماعية تتشارك فيها كل الأطراف، لأن نجاحها يعتمد على تكامل الأدوار وصدق القناعة بأهمية حقوق الإنسان.
لقد علّمني التعليم الدامج أن أرى الاختلاف قيمة، وأن أفهم الطالب كما هو، لا كما نريده أن يكون. وجعلني أؤمن بأن المدرسة الدامجة ليست حلمًا بعيدًا، بل مشروعًا قابلًا للتحقق، يبدأ من قلب المعلم وإيمانه العميق بأن كل طالب يستحق فرصة عادلة ليتعلّم ويبدع ويعيش بكرامة.
وهكذا تستمر رحلتي… رحلة أعتز بها وأفتخر أنني جزء من صُنّاعها. فقد أصبحت اليوم أكثر يقينًا بأن دوري يتجاوز حدود الحصة الصفية، ليصل إلى المجتمع بأكمله، في مسيرة مشتركة نحو مدرسة دامجة، ووطن يفتح ذراعيه لكل أبنائه بلا استثناء.
* مديرية التربية والتعليم/الكرك - طالبة دبلوم التعليم الدامج/ جامعة اليرموك