في الذكرى الحادية عشرة لرحيل أبي
ويعودُ تشرين.. أوّلُ الحبّ، وأوّلُ الخير، وأوّلُ المطر.. فلماذا تركتَه وغبْت؟
ويعودُ تشرين.. آخرُ الحبّ، وآخرُ الخير، وآخرُ المطر، عندها عرفتُ أنَّ الأحبة "عغفلة بروحوا وما بيعطوا خبر".. ولهذا تركتَنَي وغبْت، وقدْ كنْتَ الوترَ المشدودَ على قيثارةِ الحياة، ومرسى الرّوحِ في بحرِ العُباب، غبْتَ وقد كنتَ البهاءَ في محرابِ الدار، وقنديلَ الحكمةِ في ليلِنا الطّويل.
ليتَكَ غائبٌ في سفر، فتعودُ ولو بعدَ حين، وبصوتِكَ وأحاديثِك تَنْثرُ سِلالَ الزَّنبَقِ والياسمين، فتجمعُ ما تناثرَ فيَّ من شوقٍ إليك، أُعانقُكَ عناقَ المشتاق.. وتطيبُ نفسي برجوعِك.
"أشوفك بس يابا" لأُعيدَ توجيهَ طريقي من التَّوَهان وضياعِ العنوان، فمِنْ حسرتي على فراقِكَ يرتجفُ قلبي قبلَ يديّ، قلبي الذي مهما كبرتُ سيبقى طفلاً يتوقُ إلى حضنك وحنانك، والآنَ أدركْتُ أنّني كنتُ أركضُ حولَ صوتِك دائمًا، لكنّني أدركتُ أيضًا أنّ:
"الموتَ يعشقَ فجأةً، مثلي،
وأنّ الموتَ، مثلي، لا يحبُّ الانتظار".
لظى الشّوقِ يُحرقُني، ويكويني غيابُ طيْفِ الرّجاءِ في عودةٍ أو لقاء. فما معنى الحياةُ بينَ وَهَجِ بقائي وبينَ انطفاءِ نورِك؟ وما أقسى أنْ تُحدّقَ عيناي في صُورتِك، وتمنعُني قيودُ العجزِ عنك، ولا أجري لأعانقَك وعبقُ رائحتِك يحييني. يا ليتَ حُكمَ الفناءِ ما طالَكَ أبدًا يا أبي، ولَيتَكَ ما غادرتَنا وبقيتَ حيًّا بيننا. وإني، وإنْ أيقنْتُ أنّكَ لنْ تعود، ما زلتُ أُشْرِعُ نوافذَ الانتظارِ لِما لا يُرتجَى، يَطرقُ النِّسيانُ بابي وما من مجيب.
ما الذي فيكَ يا أبي يجعلُ غيابَكَ وشعوري بفقدِكَ معَ مرورِ الأيَّامِ والسّنواتِ الطّويلةِ غضًّا قريبًا وكأني خسرتُكَ اليوم، ما الذي فيك يجعلُ الحديثَ عنْكَ حاضرًا ولو بدأْناه ب(كانَ أبي وكانَ وكانْ) فأشعرُ (كان) هنا فعلاً تامًّا لا ناقصًا، ما الذي فيك يجعلُ دموعي حارّةً حرارتَها في اليومِ الأوّلِ لموتِك؟ ما الذي فيك وقد خالفتَ مقولةَ: كلٌّ يرى الناسَ بعيْنِ طبعِه؛ فما لي لا أراكَ في عيونِ كلِّ الناس إلاّ بصورةٍ واحدة تُبصرُ جودَكَ وحكمتَكَ وجمالَ طبعِك، أيّها الاستثناءُ بينَ العموم، المتفرّدُ بينَ المتشابهين.. ما أجملك!
فيكَ ما ليسَ في غيرِكَ مِنْ هيْبةٍ وحضور، تملأُ وحدَكَ –فردًا- فراغًا لا يملؤُه الآخرون.. لا أفراد ولا جماعات، وبي ضَعْفٌ إنْ أصرَرْتُ على شيءٍ وسمعتُ (مشان خاطر أبوي) أنْ أتراجعَ عن كلِّ شيءٍ ولو كانَ حقًّا؛ فخاطرُكَ عندي كبيرٌ لا تكسرُهُ ماديّاتٌ علّمْتَني أنّ خسارتَها ليستْ شيئًا محسوبًا، خاطرُكَ كبيرٌ ولأجلِه أنحني وأتجاوز، ولكَ منّي أنْ يبقى شأنُكَ حاضرًا أبدًا، وخاطرُكَ مجبورٌ ما حييت.
فأنا مثلُكَ يا أبي:
عنيدٌ كالصّخورِ إذا حاولوا عصْرَها
وقاسٍ كالنّسورِ إذا حاولوا قهْرَها
وصلْبٌ كالجسورِ إذا أثقلوا ظهْرَها
ولكنّني طيِّبٌ كالسّنابلِ إذا نشدوا خيْرَها.
لكنّني واللهِ "أَرْهَقَني اليُتْمُ" يا أبي، فلماذا فتحْتَ أبوابَ حزني، وأغمضْتَ عيْنَيْكَ عنِّي؟
لا تدَعْني؛ فروحي معلّقةٌ بك، أُسامِرُ الذِّكرى، وأحفظُ كلَّ ما جمَعَنا بتفاصيله، رائحتُكَ عالقةٌ وعَبَقُها يُحيطُ بي في رُكْنٍ أمينٍ من الذّاكرة، لا يَهرمُ ولا يصيبُه النِّسيان، وتمضي السّنون وأنا أَحملُكَ في قلبي لا أَمَلّ، وشوقي لك كلّ يومٍ يزيدُ ولا يقلّ، ومهما غابت الشّمسُ وعبَثَت الرِّيحُ بالأشجار سأمدُّ جسرًا أعبرُه إليك… أملاً، أو وهمًا، أو هاجسًا، وثقةً أنَّه أخيرًا سيوصِلُني إليك.
وفي الليالي الحالكات "يِوْرِد على خاطري كلّ اللي بينّا تقال"،، أعيشُ به وعليه؛ فتطيبُ روحي ويهدأُ البال، وأتمنّى "أضمّك بالقلب أشوفك ولو ساعة"؛ فأنتَ كلّي يا أبي؛ في دمْعي أنتَ منديلُ عَيْني، وفي وقوعي أنتَ سندي وعصاي، وفي خَوْفي أنتَ رجائي وأماني، ومن أجلِك قالوا "تعيش وتتذكّر"؛ فمَنْ يُنسى هو من يموت، أمّا أنتَ ففي الذاكرةِ حيٌّ لا تموت.
تَضيقُ روحي بدونِك، ويضيقُ رَحْبُ أيَّامي برحيلِك. فالهجْرُ يا "أبو زيد"، مَوْسمٌ مُقيم، والأيَّامُ في مجيئِها ورواحِها مواسم، والمواسمُ مثلُ الحكايات؛ منها ما يُعجِّلُ بالانقضاء، ومنها ما يُطيلُ المقامَ ويُمعِنُ في المَبيت. وهذا تشرين، مَوْسمُ الحنين، موسمٌ باقٍ على مرِّ الأيَّامِ والسِّنين.
تتركُ علامةً وسيرةً حُلْوةً وعطرة، وعندما تجيءُ ذكراك أقولُ كانَ وكان. قد كنتَ روحي وفي حضنِكَ كلُّ الأمان، وبعدَكَ انكسرْتُ لكنّي أتجمَّلُ بالصّبرِ وأُعلِّلُ النَّفْسَ بالنسيان.
"وإلكْ كانت يا عَذْبَ الطّول طَلاّتْ
وإلكْ كانت يا أبو الشّومات شوماتْ
علامَكْ غِبْتْ والدّنيا تشارين".