انتشرت في الأيام الأخيرة تسجيلات منسوبة إلى بشار الأسد وإلى شخصيات داخل دائرته الضيقة، وفي مقدمتهم لونا الشبل. مضمونها المتداوَل يكفي لفتح باب واسع نحو مساءلة الرواية الرسمية التي بُنيت عليها سنوات الحرب. فما خرج في التسريبات لا يناقض الخطاب الرسمي فحسب، بل يهدم أساسه؛ إذ يظهر قادة المشهد وهم يسخرون من المدن المدمّرة، ويستهزئون بالجنود الذين وُصفوا في الإعلام بأنهم “أبطال المعركة”، ويضحكون فوق الخراب الذي عاشه السوريون يومًا بيوم.
لسنوات طويلة، قُدّمت للناس قصة واحدة: دولة تقاتل الإرهاب، قيادة ثابتة، جيش صامد، وشعب يلتف حول “الحقيقة”. غير أن اللهجة التي تحملها هذه التسجيلات تكشف وجهًا آخر لصنّاع القرار؛ وجهًا متعجرفًا، مستهترًا، يبدو وكأنه يعيش في عالم موازٍ لا علاقة له بالخراب الذي عمّ المدن ولا بالأثمان التي دفعها السوريون. يظهر الكلام في التسريبات أشبه باعتراف غير مقصود بأن كل تلك الشعارات لم تكن سوى ستار يُرفع أمام الجمهور، بينما وراءه تدور أحاديث مملوءة بالازدراء والتهكم وحتى الضيق ممن يفترض أنهم “الركيزة” التي استند إليها النظام.
وتأتي شخصية لونا الشبل في قلب هذا المشهد، بوصفها إحدى أكثر الوجوه حضورًا في خطاب السلطة. لكن التسريبات تُظهر خطابات بعيدة كل البعد عن ما اعتادت قوله أمام الكاميرا: لغة استهزاء، وتحقير، ونبرة تُسقط عنها كل ادّعاء بالقوة أو المسؤولية. كان يفترض بها أن تعرف أن من يقترب من نار السياسة، ومن يشارك في بناء خطابٍ يستند إلى القوة المطلقة، عليه أن يتحمل ارتداد هذه النار حتى لو كان الثمن _ الحياة_.
لكن ما بدا واضحًا أن الإدراك غاب، وأن “الهيبة المصطنعة” ذابت تمامًا في لغة تفضح ما تحت المستور.
ولا يمكن فصل هذه التسريبات عن شبكة الحماية الخارجيّة التي أمّنت للنظام بقاءه؛ من روسيا التي قلبت الموازين عسكريًا، إلى إيران التي شكّلت عمود الدعم الاستراتيجي، إلى الصين التي وفّرت غطاءً في المحافل الدولية إلى حزب الله الشريك الذي لم يسلم من الشتم. يظهر في الأحاديث المتداوَلة شعور واضح بأن البقاء لم يعد نتيجة قوة داخلية أو شرعية شعبية، بل ثمرة ميزان خارجي تحكمه حسابات الدول الكبرى. وكأن الرجل الذي حكم البلاد لعقدين يعترف، دون أن يقصد، بأن السلطة لم تعد “سورية” بالمعنى العميق للكلمة، بل معلّقة بخيوط تمتد من موسكو وطهران وبكين.
ورغم كل ذلك، فإن سوريا اليوم ليست سوريا الأمس. ثمة بلد يتشكّل في الظل، جيل جديد ينشأ بعيدًا عن خطاب “القائد والمنقذ”، ووعي يتنامى رغم الجراح والانقسامات. ليست سوريا الجديدة خالية من الأخطاء أو التخبطات، لكنها تخلو – ولو تدريجيًا – من ذلك الثقل الذي طبع سنوات الحرب. بلا الأسد، بلا نظامه، وبلا تلك الذهنية التي حوّلت البلاد إلى ساحة اختبار مفتوحة. إنها سوريا تتلمّس طريقها نحو دولة تعود فيها السياسة إلى الناس، لا إلى موائد مغلقة يُضحك عليها فوق الدمار.
وهنا تبرز الحقيقة الأكثر قسوة: كل من أيّد هذه السلطة يومًا ما، عليه اليوم أن يراجع نفسه. لا بهدف جلد الذات، بل بهدف الاعتراف بأن ما بدا “ثباتًا” ربما كان تعنّتًا، وما قُدّم باعتباره “حكمة” ربما كان استهزاءً، وأن مناصرة نظام يضحك في الخفاء على جنوده وشعبه ليست موقفًا سياسيًا، بل عبء أخلاقي. إن التسريبات – حتى لو بقيت في دائرة الجدل – تضع مرآة صادمة أمام الجميع، مرآة تقول إن الروايات المصنوعة لا تستطيع مقاومة صوت الحقيقة حين يتسرّب.
فالنهايات دائمًا واحدة: السلطة المطلقة تسقط من داخلها قبل أن تسقط من خارجها، والأنظمة التي تبني شرعيتها على الخوف لا يفضحها التاريخ وحده، بل تسجيل واحد إضافي، جملة واحدة، ضحكة واحدة فوق الركام.