التحديات التشريعية والتنظيمية أمام المصارف الإسلامية
د. محمد فخري صويلح
07-12-2025 02:28 PM
منذ نشأتها في سبعينيات القرن الماضي، شهدت الصناعة المصرفية الإسلامية تطوراً متسارعاً جعلها تنتقل من تجربة محدودة إلى منظومة مالية قائمة بذاتها، تعمل في عشرات الدول في القارات الخمس، وتدير أصولاً تفوق 9 تريليونات دولار وفق آخر التقارير العالمية، ومع هذا التوسع الكبير، برزت الحاجة إلى أطر تشريعية وتنظيمية قادرة على مواكبة خصوصيات هذه الصناعة، وضمان تنافسيتها، وتعزيز سلامتها المالية، والمحافظة على استقرار منظومتها،،،غير أن الواقع لا يزال يكشف عن فجوات تنظيمية وتشريعية تعيق المصارف الإسلامية في كثير من الأسواق، وتحد من قدرتها على التوسع والابتكار.
ولعل أبرز هذه التحديات غياب التوحيد في الأطر التنظيمية بين الدول، فالمصارف الإسلامية تعمل ضمن بيئات تشريعية متفاوتة جدًا في درجة النضج والوضوح والاستقرار والتحفيز،، ففي حين أن بعض الدول مثل ماليزيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وضعت أطراً تشريعية واضحة للمصارف الإسلامية، ما زالت دول أخرى تتعامل معها ضمن قوانين البنوك التقليدية مع بعض التعديلات الشكلية،، ولعل هذا التباين يؤدي إلى فروقات جوهرية في مستوى الإشراف، ومعايير رأس المال، وآليات الامتثال والتحفيز، ما يصعّب على المصارف الإسلامية العمل عبر الحدود أو جذب استثمارات خارجية أو بناء شراكات إقليمية وعالمية، أو تطوير منتجات مصرفية إسلامية الطابع والحقيقة دون تقليد أو مماثلة للمنتجات التقليدية.
كما تواجه المصارف الإسلامية تحدياً متزايداً في التوفيق بين متطلبات الامتثال التنظيمي الدولي، مثل معايير بازل لرأس المال والمخاطر، ومتطلبات الجهات الرقابية المحلية التي قد لا تكون مهيأة بالكامل لاستيعاب الطبيعة الخاصة للتمويل الإسلامي،، فمعايير Bank for International Settlements وInternational Monetary Fund وFinancial Stability Board صممت أساساً للقطاع المصرفي التقليدي القائم على الفائدة، بينما تعمل المصارف الإسلامية وفق صيغ تمويلية تشاركية تعتمد على الأصول وليس على الديون وعلى تقبل المجازفة،، وهذا التباين يجعل تطبيق معايير رأس المال والملاءة والمخاطر أكثر تعقيداً وثقلاً، ويتطلب حلولاً تنظيمية مبتكرة تراعي خصوصية الصيغ الإسلامية دون الإخلال بالمتطلبات الرقابية.
ومن التحديات المهمة أيضاً،،، مسألة الإشراف والحوكمة الشرعية، إذ تعتمد المصارف الإسلامية على هيئات رقابة شرعية داخلية وخارجية ضماناً لتوافق منتجاتها وعملياتها مع أحكام الشريعة الإسلامية،، غير أن غياب إطار تنظيمي موحد لمعايير عمل هذه الهيئات يؤدي إلى تفاوت في مخرجات الفتاوى والقرارات الشرعية بين المصارف الإسلامية، ما يخلق بيئة غير متجانسة ويضعف ثقة الأسواق الدولية في هذه الصناعة،، ولهذا سعت مؤسسات دولية مثل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ( AAOIFI ) ومجلس الخدمات المالية الإسلامية إلى وضع معايير ضابطة في هذا المجال، غير أن تطبيقها لا يزال متفاوتاً بين الدول بين الإلزام والاسترشاد أو الاستبعاد.
ويزداد الوضع تعقيداً في ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة، إذ تطرح الرقمنة اليوم تحديات تنظيمية إضافية،، فمع دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي والبلوكشين ومنصات التمويل الجماعي إلى المشهد المالي، وجدت المصارف الإسلامية نفسها مطالبة بتطوير منتجات رقمية تتوافق مع الشريعة وتراعي المتطلبات التنظيمية ذاتها المطبقة على المنتجات التقليدية،،، غير أن كثيراً من الأطر القانونية لا تزال غير مواكبة لهذه التحولات، مما يخلق فجوة أو فراغاً تشريعياً معيقاً للابتكار، أو يجعل المصارف الإسلامية في وضع يبدو أكثر تحفظًا من نظيراتها التقليدية.
ومن العقبات المؤثرة في فعالية المصارف الإسلامية كذلك،، عدم وجود أنظمة ضريبية مرنة تراعي خصوصية الصيغ الإسلامية للتمويل،، ففي بعض الدول، تؤدي الإجراءات الضريبية التقليدية إلى فرض ضرائب مزدوجة على عمليات التمويل الإسلامي، كما هو الحال في عمليات المرابحة أو الإجارة، إذ تُفرض الضرائب على تحويل الملكية مرتين،، مرة عند شراء الأصل من قبل المصرف، ومرة أخرى عند بيعه أو تأجيره للعميل،، هذا الوضع يجعل المنتجات الإسلامية أقل تنافسية من المنتجات التقليدية من حيث التكلفة، ويضعف قدرتها على جذب العملاء والمؤسسات الاستثمارية.
ولا يمكن إغفال التحديات المتعلقة بتسوية المنازعات والضمانات القانونية،، فالتمويل الإسلامي يعتمد على عقود مالية مركبة ومتعددة الأطراف، ما يتطلب أنظمة قضائية وتشريعية قادرة على التعامل مع هذه العقود بكفاءة وسرعة وعدالة،، إلا أن معظم التشريعات الوطنية لا تزال تعتمد على قواعد القانون التجاري التقليدي الذي لا يراعي التفاصيل الدقيقة لعقود التمويل الإسلامي،، الأمر الذي يخلق حالة من عدم اليقين القانوني مما يحد من رغبة المصارف والمستثمرين في الدخول في عمليات تمويل طويلة الأجل أو معقدة أو مركبة.
ورغم كل هذه التحديات، فإن السنوات الأخيرة شهدت حراكاً إيجابياً في عدد من الدول لتقوية الأطر التنظيمية للصناعة المصرفية الإسلامية،، فقد أنشأ البنك المركزي الماليزي إطاراً تشريعياً متكاملاً يضبط عمل الهيئات الشرعية ويحدد معايير المنتجات والخدمات المالية،، كما أطلق البنك المركزي السعودي برامج تنظيمية متخصصة للمصارف الإسلامية، فيما وضع مصرف الإمارات المركزي تعليمات خاصة لرقمنة التمويل الإسلامي،، ولعل هذه التجارب تمثل نماذج يمكن الاستفادة منها لتطوير بيئات تشريعية مماثلة في دول أخرى.
إن تجاوز هذه التحديات يتطلب مقاربة شاملة تتضافر فيها جهود صانعي السياسات، والجهات الرقابية، والمصارف الإسلامية ذاتها،، فمن جهة، ينبغي تطوير أطر تنظيمية متخصصة بالتمويل الإسلامي تراعي خصوصياته وتعزز في الوقت ذاته الاستقرار المالي العام،، ومن جهة أخرى، يجب على المصارف الإسلامية الاستثمار في بناء قدراتها القانونية وتعزيز الامتثال بما يمكنها من التكيف مع المتطلبات الدولية دون فقدان هويتها الشرعية،، كما ينبغي للهيئات الدولية المعنية بالصناعة، مثل AAOIFI ومجلس الخدمات المالية الإسلامية، أن تضطلع بدور أقوى في دفع الدول إلى تبني معايير موحدة تسهم في تقليل الفجوات التنظيمية.
إن صناعة مصرفية بحجم صناعة المالية الإسلامية، وبما تحمله من فرص تنموية واقتصادية ضخمة، تستحق منظومة تشريعية وتنظيمية مستقلة وأكثر تطوراً وتماسكاً،، وإذا ما تم تجاوز هذه العقبات التشريعية والتنظيمية بطريقة حصيفة ومتكاملة، فإن المصارف الإسلامية لن تكتفي بالاستمرار، بل ستتقدم لتكون أحد أعمدة النظام المالي العالمي في العقود القادمة.
* مستشار المصرفية الإسلامية والحوكمة والاستثمار