نوبل للسلام بين المثال الأخلاقي والواقع الدولي المتغير
د. هيفاء ابوغزالة
13-12-2025 01:30 PM
في كل عام تعود جائزة نوبل، وبخاصة جائزة نوبل للسلام، إلى واجهة النقاش العام بوصفها واحدة من أكثر الجوائز العالمية تأثيرًا وإثارةً للجدل في آن واحد. فهي جائزة تحمل في أصلها وعدًا أخلاقيًا وإنسانيًا كبيرًا، لكنها في مسيرتها الطويلة لم تكن بمنأى عن التساؤلات حول المعايير، والسياقات السياسية، وحدود الاستقلالية في اتخاذ القرار.
تعود جائزة نوبل إلى وصية الصناعي والعالم السويدي ألفرد نوبل، الذي أوصى عام 1895 بتخصيص معظم ثروته لإنشاء جوائز تُمنح لمن “يقدم أعظم فائدة للبشرية” في مجالات الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام. وقد كانت جائزة السلام الأكثر تميّزًا بين هذه الجوائز، إذ أوكل نوبل مهمة منحها إلى لجنة يُعينها البرلمان النرويجي، في دلالة رمزية على ارتباط السلام بالشأن العام والمسؤولية السياسية والأخلاقية في آن واحد.
منذ انطلاقها رسميًا عام 1901، استندت جائزة نوبل للسلام إلى معايير واضحة في نص الوصية، تتمحور حول الإسهام في تحقيق السلام بين الأمم، أو الحد من النزاعات، أو تعزيز الأخوّة الإنسانية، أو دعم حقوق الإنسان، أو بناء مؤسسات وآليات تُسهم في الاستقرار العالمي. غير أن ترجمة هذه المعايير النظرية إلى قرارات عملية ظلت تخضع، بطبيعتها، لاجتهاد بشري يتأثر بالسياق الدولي السائد في كل مرحلة تاريخية.
نال الجائزة عبر تاريخها شخصيات ومؤسسات تركت أثرًا عالميًا عميقًا، من قادة سياسيين لعبوا أدوارًا محورية في إنهاء نزاعات كبرى، إلى ناشطين في حقوق الإنسان، ومنظمات دولية عملت في مجالات الإغاثة ونزع السلاح وبناء السلام. وفي المقابل، أثارت بعض الاختيارات جدلًا واسعًا، إما لأنها جاءت في مراحل مبكرة من مسارات سياسية لم تكتمل نتائجها بعد، أو لأنها عكست مقاربة ترى في “تشجيع المسار” بقدر ما تقيّم “حصيلة الإنجاز”، وهو ما فتح الباب أمام اتهامات بتسييس الجائزة أو توظيفها رمزيًا في لحظات دولية حساسة.
عملية اتخاذ القرار تتم عبر لجنة نوبل النرويجية، وهي لجنة مستقلة تتكوّن من خمسة أعضاء يعيّنهم البرلمان النرويجي، وتستند في عملها إلى نظام ترشيح واسع يشمل برلمانيين، وأكاديميين، وقضاة دوليين، وحاصلين سابقين على الجائزة، وشخصيات مؤهلة أخرى. لا يمكن لأي فرد أن يرشّح نفسه، كما أن مداولات اللجنة تبقى سرية لخمسة عقود، في محاولة لحماية استقلال القرار، وإن كان هذا لا يمنع استمرار النقاش العام حول خلفيات بعض الاختيارات.
أهمية جائزة نوبل للسلام لا تكمن فقط في قيمتها المعنوية أو في شهرتها العالمية، بل في قدرتها على تسليط الضوء على قضايا منسية، أو منح شرعية أخلاقية لمسارات سلمية، أو حماية معنوية لأفراد ومنظمات تعمل في بيئات شديدة الخطورة. فهي، في أفضل تجلياتها، منصة دولية لرفع صوت السلام في عالم تتغلب عليه لغة القوة والصراع.
في الوقت ذاته، يفرض المستقبل على الجائزة تحديات حقيقية تتطلب تطويرًا في المقاربة، دون المساس بجوهرها. عالم اليوم يواجه أشكالًا جديدة من النزاعات، تتداخل فيها الحروب التقليدية مع الأزمات المناخية، والأمن الغذائي، والهجرة القسرية، والتكنولوجيا، والفضاء الرقمي. ومن هنا تبرز الحاجة إلى قراءة أوسع لمفهوم السلام، تأخذ في الاعتبار العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والكرامة الإنسانية، بوصفها ركائز لا تقل أهمية عن وقف الحروب المسلحة.
إن الحفاظ على مصداقية جائزة نوبل للسلام يتطلب توازنًا دقيقًا بين الوفاء لروح الوصية الأصلية لألفرد نوبل، والانفتاح الواعي على تحولات العالم. فالجائزة ليست معصومة من النقد، لكنها تبقى، رغم كل الجدل، واحدة من أقوى الرموز العالمية التي تذكّر البشرية بأن السلام ليس ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة وجودية، ومسؤولية مشتركة تتجدد في كل زمن.