استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (2025): قراءَة أولية
أ.د أحمد بطَّاح
15-12-2025 12:27 PM
أصدرت الولايات المتحدة مُمثّلةً في إدارة ترامب الحالية استراتيجيتها للأمن القومي الأمريكي (2025)، وحيث أنّ الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي على المسرح العالمي فإنّ من الطبيعي أن يهتم العالم أجمع بها، ومن هنا بدأنا نسمع تعليقات بعض الساسة المهمين في العالم حولها كالمستشار الألماني، والرئيس الفرنسي وغيرهما، وإذا دققنا بموضوعية في هذه الاستراتيجية فإنّنا نجد أنها تقوم على جملة مبادئ أساسية تعتقد الإدارة الأمريكية الحالية أنّ من الأهمية بمكان أنّ تسترشد السياسة الأمريكية بها ولعلّ أهمها:
أولاً: التركيز على أنّ "أميركا أولاً" وهو في الواقع شعار حركة MAGA (Make America Great Again) التي دعمت الرئيس ترامب في حملته الانتخابية، والتي تؤمن بضرورة (جعل الولايات المتحدة عظيمةً مرةً أخرى). وترجمة هذا الشعار على أرض الواقع تعني الالتزام بتعزيز الأمن الداخلي للولايات المتحدة، وضبط الحدود، والهجرة، وحماية الاقتصاد الأمريكي، وإعادة سلاسل التوريد إلى داخل أمريكا، ومواجهة المنافسة الصناعية الأجنبية وبخاصة الصينية منها.
ثانياً: التركيز في السياسة الخارجية على نصف الكرة الغربي (الأمريكيتان: الشمالية والجنوبية)، ولعلّ هذا يفسر انتشار القوات الأمريكية مؤخراً في الكاريبي، ونُذُر المواجهة مع فنزويلا، ويؤكد على اعتبار الولايات المتحدة لأمريكا الجنوبية (اللاتينية) "كحديقة خلفية" لها، وأما خارج الأمريكيتين فمطلوب من الولايات المتحدة مواجهة التوسع الصيني، والتركيز على المحيطين: الهندي والهادي، وتعزيز التعاون مع اليابان والهند وأستراليا، ومن الجدير بالذكر أنّ الولايات المتحدة عقدت اتفاقيات أمنية مهمة معها ومنذ عهد الرئيس السابق بايدن.
ثالثاً: تضمنت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة نقداً غير مسبوق للاتحاد الأوروبي، بل واتهاماً لقادتهم بالضعف، زاعمةً أن الهوية الأوروبية التي تعبّر عن الحضارة الغربية مُهدّدة، ومُطالبةً بأن يزيد الأوروبيون من إنفاقهم الدفاعي، ومن هنا يمكن أن نفهم ردة الفعل العنيفة من بعض الرؤساء الأوروبيين كالمستشار الألماني الذي قال بأنّ دول أوروبا لا توافق على بعض بنود الاستراتيجية الأمريكية، وكفرنسا التي دعت إلى إجراء "استراتيجي" لضمان استقلال أوروبا، وكبريطانيا التي قال رئيسها في مجلس العموم البريطاني بأنّ بريطانيا تعرف كيف تعالج مشكلات الهجرة الخاصة بها ضمن مبادئ حقوق الإنسان، وبأنها تعرف كيف تحافظ على منظومتها الديمقراطية.
رابعاً: الشرق الأوسط: وقد اعتبرته الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي منطقة "مصالح حيوية" بعد أن كان "أولوية عُليا" سابقاً للاعتبارات المعروفة وهي أنّ الشرق الأوسط يحتوي على إمدادات النفط العالمية المهمة، وطرق الملاحة الدولية الرئيسية (قناة السويس، باب المندب، مضيق هرمز....)، وذلك فضلاً عن وقوع إسرائيل في قلب جغرافيته، وانطلاقاً من هذه الاستراتيجية فإنّ السياسة الأمريكية يجب أن تركز بانتقائية على أمن الطاقة، وأمن الملاحة، كما يجب عليها أن تتهيأ لمواجهة تهديدات محددة كتلك التي قد تأتي من إيران، ومما تعتبره "إرهاباً"، وذلك بالإضافة إلى الحفاظ على أمن إسرائيل من خلال دعمها دعماً أقل شمولاً وبما لا يجعله مطلقاً، وباختصار فإنّ الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تدعو إلى التقليل من الاهتمام بالشرق الأوسط، وترفض "التدخلات الواسعة" كما هو الحال في سوريا وإيران مثلاً، وفي قضايا مثل قطاع غزة فقد يكون هناك تدخل ولكن ضمن ضوابط معينة تخدم المصالح الأمريكية.
وفيما يتعلق بالخليج العربي فإنّ الاستراتيجية تدعو إلى استمرار التعاون وبما يؤدي إلى حماية الملاحة في الخليج وباب المندب مع دعوة الدول الخليجية إلى زيادة تمويلها لحاجاتها الدفاعية.
وباختصار، ومن منظور الاستراتيجية الأمريكية الجديدة للأمن القومي فإنّ الولايات المتحدة لا ترغب في أن تظل "شرطي الشرق الأوسط"، الأمر الذي يدعو الدول المعنية في المنطقة إلى أن تبني تحالفات حماية ذاتية، وأن تعتمد على شراكات أمنية إقليمية بدلاً من الحماية الأمريكية المباشرة.
وقد يتساءَل متسائل: كيف ستحقق الولايات المتحدة أهدافها الواردة في هذه الاستراتيجية؟ والإجابة على هذا التساؤل بسيط وهي أن الولايات المتحدة سوف تستخدم نفس الوسائل السابقة التي كانت تستخدمها مع تغيير في الأولويات، فهي سوف تلجأ إلى القوة الاقتصادية (يشكل الاقتصاد الأمريكي ربع اقتصاد العالم) أولاً ثم القوة العسكرية (لها 800 قاعدة عسكرية حول العالم)، ومن الطبيعي أنّ ذلك سوف يترافق مع دبلوماسية انتقائية حسب ما يتطلب الموقف.
وختاماً فإنّ الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي (2025) التي وضعتها إدارة ترامب تستحق أن تُقرأ بعناية ليس فقط من قبل الدارسين والمحللين بل من قبل الساسة وصُنّاع القرار في المنطقة العربية، لأن مفاعيل هذه الاستراتيجية سوف تنعكس بالضرورة على أوضاع المنطقة العربية شئنا أم أبينا.