حلا المشاقبة .. قبعة احترام في زمن الأحكام السريعة
د. رائد قاقيش
24-12-2025 01:33 AM
في مشهد بسيط، بلا استعراض ولا افتعال، تظهر حلا المشاقبة، ابنة الثالثة عشرة عامًا، وهي تمارس ما تعلّمته داخل بيئتها العائلية: تُربّي الماشية، وتعتني بها، وتذبح الخراف وتُسلِخها وتُقطّعها بمهارة لافتة. لا تبحث عن دور بطولي، ولا عن شفقة، ولا عن تصفيق، بل تعيش واقعًا اجتماعيًا قائمًا في كثير من البيئات، حيث يصبح العمل جزءًا من الحياة اليومية لا استثناءً منها.
هذا المشهد، على بساطته، يفتح نقاشًا واسعًا يتجاوز الفتاة ذاتها. فبين من يراه مفخرة، ومن يراه صدمة، تتسارع الأحكام، بينما يغيب السؤال الأهم: هل يُنظر إلى الفعل في سياقه الواقعي، أم يُنتزع من بيئته ليُحاكم بمعايير بعيدة عنه؟
الأردن ليس نمط حياة واحدًا، ولا مجتمعًا متشابهًا في كل تفاصيله. ما يبدو غير مألوف في المدن الكبرى، هو في الريف والبادية ممارسة طبيعية، تتعلّم فيها البنات كما الأولاد مسؤوليات الحياة مبكرًا، داخل إطار عائلي يرى في العمل قيمة، وفي المشاركة حماية، لا عبئًا أو إهانة.
العمر هنا لا يُقرأ فقط من رقم مكتوب، بل من تجربة معيشة. النضج الحياتي، وتحمل المسؤولية، والتعامل اليومي مع واقع صعب أحيانًا، تصنع فارقًا واضحًا بين العمر الورقي والعمر المُعاش. هذا لا يلغي حق الطفولة، ولا يبرر أي انتهاك لها، لكنه يفرض قراءة أعمق وأكثر عدلًا للواقع الاجتماعي.
الإشكال لا يكمن في العمل المبكر بحد ذاته، بل في الدفع القسري أو الإجباري أحيانًا الناتج عن ضغوط اقتصادية واجتماعية. هذا الضغط قد يكون غير مقصود، وينشأ داخل الأسرة نفسها، خصوصًا في حالات الفقر، أو غياب أحد الوالدين بسبب الطلاق أو الوفاة، أو المرض والعجز عن العمل. في مثل هذه الظروف، يتحمّل الأبناء—داخل البيت أو خارجه—مسؤوليات إضافية لا يفرضها قانون بقدر ما تفرضها الحاجة، بدافع حماية الأسرة واستمرارها. هنا يصبح العمل استجابة لواقع ضاغط، لا اختيارًا حرًا بالكامل، ولا إساءة أخلاقية بالضرورة، لكنه منطقة رمادية تحتاج إلى تنظيم وحماية ودعم اجتماعي حقيقي.
كما أن هناك خلطًا شائعًا بين العمل كفعل، والعمل بوصفه توريثًا مهنيًا للصنعة. كثير من المهن لا يمكن تعلّمها عبر الجامعات أو المعاهد وحدها، بل تحتاج إلى ممارسة مبكرة، ومرافقة مباشرة لأصحاب الخبرة، وانتقال حيّ للمعرفة من جيل إلى جيل. هذا التوريث المهني ليس إقحامًا ولا زجًّا غير منظم، بل نقل خبرة واستدامة مهنة، ويشكّل جزءًا أصيلًا من الهوية الاقتصادية والاجتماعية، خصوصًا في الريف والبادية.
الخطأ لا يكمن في أن تعمل فتاة، ولا في أن تمسك سكين الجزار بثبات، ولا في اختيار مهنة شاقة. الخطأ يبدأ حين يتحول العمل إلى إجبار، أو حين يُستبدل التعليم بالاستغلال، أو حين تُحمَّل الطفولة ما لا تحتمل جسديًا أو نفسيًا. أما العمل المتعلّم، المصحوب بالحب والمسؤولية، فيبقى قيمة اجتماعية لا تهمة أخلاقية.
حلا المشاقبة لا تسعى لأن تكون رمزًا، لكنها تصبح مرآة. مرآة تكشف فجوة في الفهم بين المدينة من جهة، والريف والبادية من جهة أخرى، وبين الخطاب المثالي والواقع المعيشي، وبين إطلاق الأحكام السريعة والحاجة إلى سياسات ذكية تنظّم وتحمي وتفهم.
القضية في جوهرها ليست فتاة تُربّي الماشية وتذبح وتسلخ، بل سؤال أوسع: كيف نحمي الطفولة دون أن ننكر الواقع؟ وكيف ننظّم نقل الخبرة بين الأجيال ضمن أطر إنسانية وتعليمية آمنة، مع دعم الأسر التي تتحمّل أعباءً تفوق طاقتها؟ هنا فقط يتحول الجدل من انفعال عابر إلى نقاش مسؤول.
أما حلا، فتكمل يومها كما بدأته: تعمل، تتعلّم، وتعيش بكرامة. وربما هذا وحده كافٍ لنرفع لها القبعة احترامًا… في زمنٍ تكثر فيه الأحكام وتقلّ فيه محاولات الفهم.
*د. رائد قاقيش / باحث ونائب سابق.