حين تصبح المهارة عنوان الغد .. التعليم المهني كخيار وطني
محمد خير النعسان
24-12-2025 03:27 PM
لم يعد التعليم المهني والتقني في الأردن تفصيلاً هامشياً في مشهد السياسات التعليمية، ولا مساراً احتياطياً يُلجأ إليه عند تعثر الخيارات الأخرى، بل بات اليوم في صميم النقاش الاقتصادي والاجتماعي، بوصفه أحد أكثر الأدوات واقعية لمعالجة بطالة الشباب وردم الفجوة المزمنة بين قاعات الدراسة وميادين العمل. ففي زمن تتسارع فيه التحولات العالمية وتضيق فيه أسواق العمل التقليدية، يفرض هذا النوع من التعليم نفسه كرافعة اقتصادية وجسر عبور آمن للشباب نحو الاستقرار والإنتاج.
طويلاً، أثقلت النظرة الاجتماعية التعليم المهني والتقني بأحكام مسبقة ربطته بضعف التحصيل وقلة الفرص، غير أن الواقع الاقتصادي الجديد أطاح بهذه الصورة النمطية. فالأردن، الذي يفتقر إلى الموارد الطبيعية، لا يملك ترف إهمال موارده البشرية، ولا سيما تلك القادرة على تحويل المعرفة التقنية إلى قيمة اقتصادية ملموسة. اليوم، لم تعد الحاجة مقتصرة على الألقاب الأكاديمية، بقدر ما أصبحت ماسة إلى الفني القادر على التعامل مع تقنيات البناء الذكي، والتقني الماهر في تشغيل وصيانة الأنظمة الصناعية المتقدمة، والعامل المؤهل الذي يفهم لغة الآلة والبرمجيات معاً.
في هذا السياق، يبرز التحول نحو الشراكات الذكية ونماذج التعليم التطبيقي بوصفه نقطة قوة في التجربة الأردنية. فربط التدريب بسوق العمل، وإشراك أصحاب العمل في تصميم البرامج وتنفيذها، أسهما في كسر الحاجز التقليدي بين التعليم والتوظيف. الطالب هنا لا يتخرج حاملاً شهادة فقط، بل يحمل خبرة ميدانية حقيقية، ومعرفة بسلوك السوق، وشبكة علاقات تمنحه أفضلية في الحصول على فرصة عمل، أو حتى في إطلاق مشروعه الخاص بثقة أكبر. وبهذا المعنى، يتحول التعليم المهني والتقني من عبء اجتماعي سابق إلى حل عملي لمشكلة البطالة الهيكلية التي أثقلت كاهل الاقتصاد لسنوات.
ولعل الأهم في هذا التحول هو التوجه الواعي نحو تخصصات المستقبل، تلك المرتبطة بالطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، والتكنولوجيا الرقمية، والسياحة المتخصصة، والتصنيع الغذائي الآمن. هذه المجالات لا تستجيب فقط لحاجات السوق الآنية، بل تنسجم مع رؤية تنموية أوسع تسعى إلى بناء اقتصاد أكثر استدامة وأقل هشاشة. فحين يُمنح الشاب المهارة المطلوبة في الوقت المناسب، يصبح قادراً على خلق فرصته بيده، وتحويل معرفته إلى مشروع منتج، بدل انتظار وظيفة قد لا تأتي.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحديات القائمة، سواء ما يتعلق بتحديث البنية التحتية للتدريب، أو بمواكبة التطور التكنولوجي المتسارع، أو برفع كفاءة المدربين أنفسهم. غير أن وجود أطر تشريعية داعمة، ومبادرات وطنية وصناديق تمويل متخصصة، إلى جانب شراكات دولية فاعلة، يشي بإرادة حقيقية لمعالجة هذه التحديات لا القفز فوقها. والأهم من كل ذلك، هو التحول الثقافي المتدرج الذي بدأ يرسخ قناعة جديدة مفادها أن النجاح لا يُقاس بنوع الشهادة بقدر ما يُقاس بجودة المهارة وقدرة صاحبها على الإبداع.
في المحصلة، يشكل التعليم المهني والتقني اليوم أحد أعمدة الرهان الأردني على المستقبل. إنه استثمار مزدوج: في كرامة الإنسان من خلال العمل المنتج، وفي الاقتصاد الوطني من خلال تزويده بالخبرات التي يحتاجها لينمو ويستقر. قد يكون الطريق طويلاً، لكن المؤشرات الحالية تقول إن الأردن بدأ يخطو بثبات نحو مرحلة تتحول فيها المهارة من خيار مُهمَل إلى عنوان للغد، ومن مسار بديل إلى مسار وطني بامتياز.