فلسطين كاشفة وهم النظام الدولي .. والأردن معادلة البقاء
م. عبدالرحيم البقاعي
28-12-2025 12:26 AM
بين عامٍ ينسحب مثقلًا بالخسارات، وعامٍ يدخل محمّلًا بالاحتمالات، تُعاد صياغة الأسئلة الكبرى، لا بمنطق العاطفة، بل بمنطق الاختبار التاريخي للدول والمجتمعات.
ففلسطين في عامي 2024/2025 لم تعد مسألة تفاوضٍ سياسي، بل أصبحت مسألة تعريةٍ شاملة للنظام الدولي نفسه. إذ تحوّلت القضية من خلافٍ قابلٍ للتسويات، إلى وقائع قهرٍ مادّي: إبادةٌ للمكان قبل الإنسان، وتفكيكٌ متعمّد لبنية المجتمع، وإدارةٌ منهجية للتجويع والإزاحة القسرية.
وفي غزة، لم يكن الدمار نتاج اختلالٍ عارض في ميزان القوة، بل نتيجة انفلاتها من أي إطارٍ أخلاقي أو قانوني. وهنا تتكرّس حقيقة جوهرية:
أن القانون الدولي لا يعمل بذاته، بل بقدر ما تريد له القوى الكبرى أن يعمل.
وحين تغيب الإرادة، يتحوّل النص إلى أرشيف، وتُترك الشعوب لميزان القوة الخام.
ويأتي التصعيد الإقليمي في لبنان وسوريا واليمن وإيران، وتوتير الممرات البحرية في البحر الأحمر، ليؤكد أن المنطقة تدخل مرحلة سيولة استراتيجية، تتداخل فيها الحروب المحلية بحسابات القوى الكبرى، ويغيب فيها الخط الفاصل بين الاشتباك المحدود والانفجار الشامل.
في هذا السياق، يظهر الأردن لا كطرفٍ في الصراع، بل كحالة توازنٍ دولتي، تتشكّل سياسته من تقاطع التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا. فالدولة الأردنية تعي أن فلسطين ليست قضية جوارٍ فحسب، بل مكوّنًا بنيويًا في أمنها الوطني، وأن أي مشروع تهجيرٍ أو تفكيكٍ للكيان الفلسطيني يعني اهتزازًا مباشرًا في بنيتها الداخلية.
من هنا، لا يُقرأ الرفض الأردني للتهجير كخطابٍ أخلاقي فقط، بل كقرار أمنٍ وطني مكتمل الأركان. ويأتي الحراك الدبلوماسي المكثف، والدعم الإنساني المستمر، كجزء من إدارة الأزمة لا كترفٍ سياسي، وذلك في وقت يعاني فيه الأردن من ضغوط اقتصادية ومالية حادة، وأعباء لجوءٍ متراكمة أعادت تشكيل بنيته الاقتصادية والخدمية.
وعلى الرغم من ذلك، لم ينهَر الاستقرار الداخلي، ولم تتفكك الرابطة الاجتماعية. وهنا تبرز وحدة المسلمين والمسيحيين في الأردن كحقيقة بنيوية لا كشعارٍ سياسي؛ وحدة تشكّلت عبر الدولة والمجتمع، وثبتت في لحظات الاختبار، وأنتجت نموذجًا نادرًا للاستقرار في إقليمٍ متشظٍ.
وفي بُعدٍ ظاهره رياضي وجوهره اجتماعي، جاء تأهّل المنتخب الوطني لكرة القدم إلى كأس العالم تعبيرًا عن منطق الإنجاز التراكمي، لا عن الصدفة. فهو نتاج إدارة تفهم حدود مواردها، وتعمل بعقلٍ مؤسسي، وتُدير النجاح كعملية طويلة الأمد.
وفي ذلك دلالة أعمق: أن الدولة التي تُجيد تدبير فرحها، هي نفسها القادرة على تدبير أزماتها.
هكذا يقف الأردن اليوم:
لا واهِمًا بقوةٍ فائضة، ولا مستسلمًا لخطاب العجز، بل دولة تعرف ذاتها، وتُدير موقعها، وتفهم أن الاستمرار في زمن الانكشاف هو شكلٌ راقٍ من أشكال القوة السياسية.
وبين ذبح فلسطين وتماسك الأردن، تبقى الحقيقة الأكثر قسوة ووضوحًا:
إن الدول لا تُقاس بصوتها، بل بقدرتها على أن تبقى.