في معضلة الإسلام – فوبيا وجذورها
سامح المحاريق
28-12-2025 06:26 PM
لماذا لم يكتف الإخوان المسلمين بالمشاركة السياسية بعد ثورة 25 يناير وانتقلوا إلى المغالبة على مرحلتين.
الأولى، التعاون مع المجلس العسكري تجاه عزل قوى الثورة المدنية المتعددة، وبوصفهم حليفًا موثوقًا طرحوا في مكانة أعلى وأوثق من بقية الطيف السياسي.
الثانية، الدخول في الانتخابات، والحصول على منصب الرئيس، والسيطرة، بالتحالف مع السلفيين، على المؤسسة التشريعية، ومن ثم تشكيل حكومات إخوانية الطابع.
في الطريق إلى قصر الاتحادية كان الإخوان يتحدثون عن مشروع النهضة، وتبين بعد استقرار مرشحهم الدكتور محمد مرسي على مقعد رئيس الجمهورية، أن المشروع ليس سوى مجرد كلام مرسل ووعد غير ناجز، وتفاقمت المشكلات أمامهم، والحديث عن أي تربص بطبيعة الحال ليس ذا قيمة أو معنى، لأن الإخوان كما استفادوا من التحالف في المرحلة الأولى، دفعوا ثمن نقضه بعد التفرد في المرحلة الثانية.
قبل أن تنقضي السنة التي قضاها الرئيس مرسي في الحكم، واسترضاءً للسلفيين، ينعقد مؤتمر لمناصرة الثورة السورية، وتبدأ مخاوف حقيقية من تشكل كيانات تتجاوز الإخوان المسلمين لتصبح مماثلة لما يحدث في المختبر السوري المشتعل، قبله في العراق مع ظهور تنظيم داعش، وقبله نسخة أبو مصعب الزرقاوي في الوكالة المفتوحة لتنظيم القاعدة.
الإخوان المسلمون في حد ذاتهم ليسوا المشكلة، والتنظيم لديه الكوادر الكثيرة التي يمكن أن ترفد أي تحرك نهضوي في الدول العربية بصورة لائقة، إلا أن التنظيم نفسه تحول إلى طريق غامض ومفتوح وسط حالة من الاستغلاق التي يعايشها المواطن العربي، وتفاقمت حالته مع ظهور ما يسمى بالفكر القطبي المنسوب إلى الناقد الأدبي والفني السابق، والمنظر الإسلامي في مرحلة لاحقة، سيد قطب، لينفتح عصر الإسلاموفوبيا، في الدول العربية المسلمة أولًا وقبل أي مكان آخر.
تمكن الإسلاميون من طرح أنفسهم ضمن مجموعة من الحلول أتت على حافة موسم الاستقلال في الدول العربية، كان معهم القوميون والشيوعيون في أطياف متعددة، ومع صعود القومية وانكشاف عدم قدرتها على إجابة الأسئلة الإجبارية للنهضة بمعناها الإنساني الشامل لا ذلك الذي يستدعي رسالة خالدة لا يعرف أحد تفاصيلها أو حدودها، يعاود الإسلاميون البحث عن دور في وسط المشهد بعد هزيمة حزيران بوصفها نقطة التحول على المستوى الشعبي، قبل أن تأتي حرب الخليج الثانية لتكشف أن العرب أصبحوا عربين، وأن نموذج التكامل – من إتجاه واحد – الذي طرحه عبد الناصر لم يعد صالحًا للمستقبل، لأنه كان ضمنيًا مشروعًا للهيمنة من طرفه.
التخوف من الإسلاميين أتى على أساس تجربة حركات التصحيح أو بالتسمية الصريحة، الانقلابات العربية، ووعودها بأن تعبر عن المواطنين لتنتهي بعد فترة زمنية وجيزة إلى ديكتاتوريات صريحة، وفي لحظة انفعالية يظهر الرئيس مرسي متسائلًا: ايه يعني لما نضحي بشوية عشان الباقي يعيش؟
الشوية الذين تحدث عنهم مرسي لم يكن معروفًا هل سيصلون إلى مئات الآلاف مثل الشوية الذين قرر أن يضحي بهم بشار الأسد، أم شوية مثل الذين ذهبوا ضحية لأعمال تنظيمات متطرفة مثل داعش! ومن هنا أتى التلويح بمصير العراق وسوريا في خطاب ما بعد الثورة في مصر، أما السبب لتمرير التخوف فيعرفه كثير من المصريين وخاصة من النشطين سياسيًا على امتداد عقود حكم مبارك.
لم تكن حادثة المنصة واغتيال السادات في 6 أكتوبر 1973 حدثًا منفصلًا، ففي أسيوط بدأت محاولة الاستيلاء على المدينة التي تعد مركزًا للإسلاميين المتطرفين، ليذهب المئات في اشتباكات تمكنت قوى الأمن من تطويقها، لتنكشف محاولة استيلاء على السلطة كانت بدأت ملامحها الأولى في اشتباكات الكلية الفنية العسكرية في مصر 1974، وهذه الفئة من متبني الفكر الإسلامي في نسخته القطبية كانت النواة التي حولت مجاهدي أفغانستان إلى اتجاه القاعدة بالامتداد العالمي الذي وصل ذروته في 11 سبتمبر 2001.
في سوريا، كانت الطليعة المقاتلة التي أنتجتها جماعة الإخوان المسلمين ترتكب مجزرة مدرسة المدفعية في حلب في صيف 1979، وقبل أن تنتهي السنة كان جهيمان العتيبي يقود مجموعة من أنصاره لاحتلال الحرم المكي.
الوضع كان يمكن تشبيهه بفئة غاضبة تتحرك ضد سلطة غاشمة، والانتهازيون في الجانبين، يسعون إلى الكارثة التي ستؤجل متطلبات الإصلاح التي يجب أن تمضي من خلال بناء وعي حقيقي وسيادة فعلية وملموسة للقانون، مع الحوكمة والشفافية لبناء دول حديثة تقدم لمواطنيها حياة كريمة، من غير أن تحمل طموحًا باستعادة الأندلس، وهو طموح يبدو أن القوميين والإسلاميين تشاركوه طويلًا، لأنه يمثل قفزًا للأمام يبرر عملية تحشيد في جوهرها هي صراع على السلطة.
لماذا لم ينجح الإخوان المسلمون، بوصفهم التنظيم الذي تحصل على فرصة التواجد الرسمي في الاندماج البناء والذكي، وفقًا للطريقة التي حدثت في تركيا؟ وكيف لم يشكلوا جهاز مناعة ضد التطرف الذي أخرجه أحد الدخلاء على التنظيم ليصبح حلًا.
هذه أسئلة ذات طبيعة تتعلق برحلة طويلة من الفشل، وبمزاج عربي عام، كان يجعل أي طرف يقبض على السلطة، وبدلًا من المضي في تنمية شاملة، يسعى لاحتكار يعود لمناصريه بعائد يفوق ما يتوفر للبقية ويتاح لهم، ووظفت في ذلك اتهامات التخوين في التجارب القومية، وفتاوى التكفير في نسخ الإسلام السياسي المتعددة.
ظاهرة الخوف من الإسلام السياسي التي نشأت في المنطقة العربية، وتحديدًا في فورة القبض على السلطة من القوميين، وأخذت تعرف بالإسلام – فوبيا، تحولت إلى ظاهرة عالمية مع توسع الهجرة إلى الغرب، ويبدو أن النقلة في تصور الإسلام – فوبيا أخذت منحنى أبعد مما هو معروف مسبقًا، فلم يعد الحديث يقتصر على عمليات إرهابية في مدريد أو لندن أو باريس، أو حتى اسطنبول، ولكنه يصل مع جي. دي. فانس للتخوف من وصول المتطرفين إلى الحكم في دولة نووية أوروبية، هذا كلام كرره قبل أيام، ليظهر تصريحه بأن بريطانيا أكبر دولة إسلامية نووية مفهومًا بعد أشهر طويلة من إثارته للجدل حين أطلقه أول مرة.
من يشترك مع فانس في قناعاته؟
الناخبون الأوروبيون الذين يتوجهون إلى اليمين ليشكل تحصينًا لوجودهم، ويسعون لوقف الهجرة الواسعة على شواطئهم، والتضييق على المجتمعات الإسلامية المعتدلة تحت دعاوى الخوف من المتطرفين، وفي هذه الحالة، فإن صدام الحضارات الذي كان يمكن أن تتجاوزه التقنية الحديثة والتحول إلى قرية عالمية يصبح ممكنًا وبتكلفة سيدفع ثمنها الأبرياء في كل مكان.
هذه الصورة السوداوية تتمدد من الشرق إلى الغرب، من غير أن يتقدم أي طرف لتقديم نقد حقيقي لما يحدث، بل ويحاول البعض محاصرتها في الإسلام والإسلام – فوبيا، وكأنها الطرف الوحيد الفاعل في ذلك كله، والغرب ليس سوى مدافع عن أخلاقياته وحضارته، والحقيقة تبدو مختلفة بعض الشيء.
ظهور الإسلام السياسي أتى بصورة أساسية كنتيجة للفشل في التنمية وفي المحافظة على قيمة الإنسان في المرتبة الأولى، واحترامًا لفرديته وحقوقه، والإسلام – العربي، هو المسؤول عن أية نزعات عنيفة تسربت لتصبح لصيقة بالمسلمين في كل مكان لدوره المرجعي والأساسي، بمعنى أن الإسلام السياسي يسعى لإنسان غير واقعي بل وغير مطلوب ولا ضروري في مجتمع مثالي، يقابل مجتمعًا جاهليًا يجب تقويضه، والفكرة خطيرة على وجهيها، فالإنسان غير الموجود هو ابن الطائفة الناجية، لو كان سنيًا فربما يصبح بعد ذلك سلفيًا، ليصير الأشعري كافرًا أو العكس، ولو أنه شيعي، فأي نسخة ستكون المقبولة، وعلى الوجه الآخر، إذا كان الإسلام فوق الدولة وحدودها، فأين يبدأ المجتمع الجاهلي، وهل بعد التغلب على الجاهلية في الدول العربية ستصبح الإكوادور أو آيسلندا هدفًا قادمًا؟
في المقابل، لم يزل الغرب يدفع ثمن الهيمنة التي تكرست في زمن الاستعمار، وعليه أن ينتقل للشراكة، وإلا فالبديل أن يغير هوية القنبلة النووية التي يخاف منها المرة بعد الأخرى، فهي كانت شيوعية، واليوم إسلامية، وغدًا ستكون صفراء آسيوية، والغرب الذي يحتاج إلى الهجرة نتيجة لواقع شيخوخة المجتمعات، هو نفسه الذي يحاربها ليؤبد العيش في مستويات لم تعد مرتبطة بالإنتاج الحقيقي، بقدر ما أصبحت متعلقة بقدرته على إعادة إنتاج الاستغلال للآخرين، وما حدث بعد أزمة وباء الكورونا يؤكد ذلك، فالعالم يدفع فاتورة المعونات التي تلقاها المواطنون الأمريكيون.
كما وعليه أن يفكك تحالفه مع إسرائيل، وخاصة مشروع القلعة الذي يتبناه اليمين المتطرف، لتصبح أمام معضلة التعايش من طرفها لا العيش على حساب الآخرين كما يحدث الآن، فالعرب من طرفهم، تقدموا بالمبادرة بعد الأخرى للسلام من غير أن تقدم إسرائيل شيئًا يذكر، سوى التمدد والبلطجة والعدوانية.
وسط ذلك كله، تظهر مجموعة من الدول العربية في مواقع متقدمة من الجدل، فالمنطقة العربية هي الجذر لامتداد الإسلام في العالم، وهي المقابل الحضاري الموضوعي، للأوروبيين، الذين يمكن اعتبار الأمريكيين امتدادًا لمركزيتهم، مهما تطورت الخلافات كما يحدث مع إدارة أمريكية ذات نكهة يمينية.
التساؤل المهم، هل يدرك الإسلاميون (وليس المسلمين بالطبع) الورطة الكبرى التي لحقت بمجتمعاتهم وبصورة الإسلام ومصالح معتنقيه نتيجة التوظيف المفرط للدين في الصراع السياسي، بالترافق مع التهوين من قيمة الإنسان التي يفترض أنها القيمة الأسمى في الإسلام، سواء كان ذلك الإنسان في معسكرهم شهيدًا، أو جزءًا من شوية المجتمع الجاهلي وفقًا لتصنيفهم وحدودهم، وكيف يمكن أن يعودوا، وأن يقدموا من طرفهم الضمانات الكافية ليكونوا في موقع المشاركة لا المغالبة، التفاهم لا الصراع، البناء لا الاستنزاف، ألا ينطلق ذلك من العقل مقدمًا على النقل، أليس يفترض أن يستند على استنئاف التنوير الذي كان قائمًا في عصور ما قبل وثيقة الاعتقاد القادري والتي لم تحسم الصراع المذهبي ولا أنقذت دولة الخلافة.
وفي المقابل، متى تصبح الحوكمة والشفافية هي أداة استراتيجية بدلًا من أن تصبح الدولة في نسختها العربية وفي رحلة بحثها عن هويتها في موقع الطرف في الصراع وتفوت فرصة بناء المجتمع، وإلا فإننا سننتقل إلى العربـ - فوبيا التي ستجعلنا في مواجهة العالم بأسره متأخرين وغارقين في الشعارات والعنتريات.
المفارقة أن التوقعات التي تذهب إلى ذلك تعتمد إلى حد بعيد على قرار من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه اعتبار أجنحة ومؤسسات تابعة لتنظيم الإخوان المسلمين كيانات إرهابية، هي تناقض صارخ لرجل قبض على نسخة من الكتاب المقدس ومضى ليقف في الشارع بعد خسارته للانتخابات الرئاسية في 2020، ولكن ذلك حديث آخر.
الإخوان كتنظيم عالمي ليسوا كل المشكلة، ولكنهم مسؤولون عن أن يكونوا جزءًا من الحل، وأن يعملوا على ذلك بصورة مخلصة، لا أن يصبحوا منصة انطلاق للتطرف، ولا أن يهادنوا التطرف لتعزيز مواقعهم في صراعات انتخابية تسعى إلى السلطة، فموقعهم في المشاركة في مراحل كثيرة أثبت أنه أكثر جدوى لهم وللمشهد السياسي ككل، ورحلة الإصلاح العربي يجب أن تبدأ بالإنسان وحقوقه في منظومة قائمة على القانون وأدوات إنفاذه، لا أن يعتبر الإنسان أداة مرحلية لتحقيق تصورات خلاصية أو طوبائية ليست من واقع الحياة ولا ضرورتها.