اقترابي منهم في السنوات الأخيرة، كشف لي خريطة حياتهم ،الاحتكاك اليومي معهم كان بمثابت مجهرَ تكبيرٍ لكل مسامات الحزن التي تتفتح في اصواتهم وفي تلاوين عيونهم بعيداً عن «الستاند باي» و»صرخات المخرجين» و»عيون المشاهدين».. من خلال صداقتي التي جمعتني بمعظمهم ، اكتشفت كم هي أحلامهم سهلة ،وحياتهم برية مثل حياة العصافير فهي مهما تعقّدت مزاجها شيئين اثنين : الحرية والرزق اليومي ، قلوبهم بيضاء كثمار القطن، وضحكاتهم صافية كقطرات المطر..يفرّجون هموم الناس، ولا ينتظرون ابداً أن يفرّج احدا همومهم..مولودون في الكواليس وعائدون اليها...ولا يظفرون من الدنيا الا بذلك المرور البسيط على خشبة الشهرة.

عندما ينسحب الناس من المسرح،تاركين خلفهم قهقهات التصقت بالجدران وتصفيقاُ علق في الستائر وتصفيراً كسر حاجز الصمت في أذهان الحاضرين..ودموعاً ذرفت ضحكاً ونشوة، عندما ينسحب الناس ،تاركين تحت مقاعدهم علب الكولا الفارغة وأكياس التسالي، وأعقاب السجائر وساعتين من السرور..يبقى الفنان وحيداً يجلس في عتمة الكواليس محنياً تحت أدوات الكوميديا، محشوراً بين بقايا الخشب المكسّر كقطعة ديكور مهملة، تعلوه ملابسه المستعارة ، وشعره المستعار ، وضحكاته المستعارة، وشخصيته المستعارة..في عتمة الكواليس، عندما يأكل المسرح ضوء «السبوتات» المتلاشي ،ويأكل الصمت سعال الجمهور المغادر..يبقى الفنان وحيداً ،يذرف دمعة الوحدة والظروف الصعبة، يدخّن وجعه وينفث صبره ، يقتات على تصفيق اشبع روحه للتو ، يلّف عبارات الاعجاب «ديلفري» ويعود بها لأولاده الذين ينتظرون عودته بفارغ الجوع..

كم نحن أنانيون ومستبدّون !!! نحبهم ،نصفق لهم ، نطري عليهم، نتصور معهم، فقط لأنهم يضحكونا..وعندما تترقرق دمعة حزن واحدة في عيونهم، أو يمارسوا لحظة غياب قسري بفعل «الموت»..نلفظهم من ذاكرتنا ومن محفظة إعجابنا...

الفنانون الزاهدون طيلة حياتهم،لا يرضون ان تتحول لحظة موتهم الى»تيليثون للتبرعات»..فمن أغدق على جمهوره بالضحكات لا ينتظر ان يتصدّق عليه أحد برغيف..

الفنان الخالد..خبزه فقط ذاكرة جمهوره.

*اهداء الى روح الصديق الراحل الفنان محمود صايمه.



ahmedalzoubi@hotmail.com

(الرأي)