facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss




عمّان» المكان السرديّ كما يراه الروائي قاسم توفيق


13-12-2014 11:59 PM

عمون - محمد صابر عبيد - يعني مصطلح ((النحت السرديّ)) القدرة على التفنّن الجماليّ والوعي الفكريّ والمعرفيّ في رصد تشكيلات المكان وتمظهراته الصورية، والتعامل معه صياغياً بطريقة بالغة الدقّة والفنّ والحيوية والإبهار والإدهاش، كما يتعامل النحّات الجبس الذي ينحت منه تمثاله ويحمل أفكاره ورؤيته، ولا يفرّط بأيّ جزء من أجزائه أو حيّز من أحيازه أو زاوية من زواياه، ولعلّ هذه الدقّة من شأنها أن تساعد المكان على أن يقوم بدوره الجوهريّ في رسم السياسة العامة للخطاب، ليقدّم في النهاية مكاناً منحوتاً بما يناسب جوهر العمل السرديّ وحاجاته التشكيلية المختلفة.

بمعنى أنّ الراوي يتحرك على أرض السرد واصفاً دقيقاً ومتدخلاً كاشفاً لا يكتفي بتشغيل آليّات الوصف بطاقاتها التقليدية المعروفة، بل ينتقل من فعالية الوصف بفعاليتها التصويرية إلى آليّة النحت بفعاليتها الإنشائية، أي يتفنّن في تشييد المكان السرديّ تشييداً معمارياً يتناسب مع الحراك الروائيّ على مستوى الحدث أولاً، ثم على مستوى باقي عناصر التشكيل السرديّ ثانياً، وبحسب فعالية كلّ عنصر، ودرجة إسهامه في فرض رؤية معيّنة ومحدّدة لطبقة مكانية، أو فعالية مكانية، أو تفصيل مكانيّ، أو ديكور مكانيّ، أو حاجة مكانية تستدعيها ظروف الحدث السرديّ.

قاسم توفيق
الروائيّ قاسم توفيق مشغول بالمكان انشغالاً فنياً وسردياً ورؤيوياً وثقافياً واضحاً وعميقاً، فالمكان الروائيّ بممكناته المادية، وظلاله، وتفاصيله، وحيثياته، ومظاهره المباشرة وغير المباشرة، ورمزياته، وطبقاته، وزواياه، وخفاياه، يبقى حاضراً وفاعلاً في مشغله الروائيّ، على النحو الذي يشير إلى وعيه بأهمية المكان وخطورته في قيام الفضاء السرديّ، ودوره الأبرز بين الزمن السرديّ والرؤية السردية في تشييد هذا الفضاء، فثمّة فعالية وصفية عالية الدقّة والتنوّع والتعدّد تستغرق في أجواء المكان وخلفياته ومرجعياته، وثمّة بناء مكانيّ خاصّ ملحق بالشخصية ومتفاعل معها، وثمّة وصف نوعيّ لأطياف المكان وظلاله كما تظهر في سياق سرديّ معيّن. وهو ما يدلّ على ضرورة سردية يتعامل معها الروائيّ بإدراك ووعي ومعرفة، تتمثّل المكان بوصفه نموذجاً يحيل على مكان واقعيّ معروف مثل ((عمّان))، هذا المكان الأثير في سرديات قاسم توفيق عموماً، بحيث يمكن دراسة تجلّي (عمّان) مكاناً سردياً في أعمال قاسم القصصية والروائية، تعمل على تحليل العلاقة بين (عمّان) الواقع عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، و(عمّان) المكان الروائيّ والقصصيّ كما يظهر في سرديات قاسم توفيق ظهورات متنوعة ومغايرة بحسب طبيعة السرد الروائيّ أو القصصيّ ومقولته، من حيث الصورة، والرؤية، والحياة الواقعية أو السردية، وأخيراً التمظهر السيرذاتيّ القصديّ عند قاسم من أجل أن يزاوج بين (عمّان) المكان الواقعيّ بمرجعيته المعروفة، و(عمّان) المكان السرديّ كما يراه ويشكّله ويعمّره سردياً، في إطار حساسية ذاتية وموضوعية من المهم والضروريّ الكشف عنها داخل فلسفة المكان ونظريته.

فالكثير من كتّاب الرواية والقصة العرب يتّخذون من مدينة معيّنة بؤرة سردية مركزية لأعمالهم، لكنّهم يقدّمون في ذلك مدينتهم الخاصة وليس المدينة الواقعية، مدينتهم هم كما يرونها وكما يشكّلونها سردياً، ومهما كانت مدينة الرواية على صلة وثيقة بمدينة الواقع غير أنّ الاختلاف كبير يعتمد على براعة الروائيّ في التأثير على المتلقي بحيث ينسى مدينة الواقع ويتّصل بمدينة الرواية، وربّما تكون علاقة الروائيّ العربيّ الكبير نجيب محفوظ بالقاهرة أفضل مثال على ذلك.

إنّ إعادة الاعتبار للأمكنة الواقعية سردياً عند الروائيين العرب تعدّ من الضرورات الحضارية الجمالية السردية، على الرغم من خطورة استثمار الأمكنة المعروفة والمشهورة في الأعمال السردية، لأنّ المقارنة التي يجد القارىء نفسه مدفوعاً إليها اضطراراً قد تحيل دون القدرة على فكّ الاشتباك القرائيّ، بين صورة المكان الواقعيّ بضروراته التفاصيلية المهيمنة على الحال القرائية، والمكان السرديّ بوصفه فضاءً خيالياً لا علاقة له بالواقع، غير أنّ تحقّق ذلك يجب أن يحصل من طرف المؤلّف، إذ عليه أن يعيَ خطورةَ اندفاع القارىء نحو هذه المقارنة السياقية، من أجل أن يعمل ما بوسعه كي يجنّبه مغبة السقوط في مثل هذه المقارنة التي تخلخل فضاء القراءة وتعكّر صفو نظامها وشعريتها.

المشهد السرديّ
تتجلّى الرؤية الطبقية على نحو واضح في رواية قاسم توفيق ((أرضاً أكثر جمالاً/ الريق المرّ))، لتعبّر عن فضاء سرديّ متحرّك يصوّر جماليات المكان وأزماته في آن، إذ يشرع الراوي الذاتيّ المشارك برواية مكانه على هذا النحو:
في ذلك اليوم بالذات وفي تلك اللحظة بدأت أشعر شعوراً جديداً تجاه الأشياء. ذهبت إلى المدرسة فرحاً، لم أكن وحدي، إنما كنت واحداً من جيل كامل من أبناء الحارة وبناتها، البنات اللواتي كنا نلعب معهن ذهبن باتجاه، وأخذنا نحن الاتجاه الآخر وسرنا به.
حملنا كلّ ما نقدر على حمله من ذكرى الحارة وأرضها التي صارت جسدنا وصرنا كيانها، أخذنا كرات القماش التي تحيكها أمهاتنا من بقايا الملابس المهترئة، وأخذنا دفاترنا وأقلامنا وأسلاكاً كنا نصنع منها أشكالاً، وحجارة ملوّنة من تراب صويلح وبقايا معجون الجدران، ألواح الفحم والرغبة في معرفة العالم الجديد، واتجهنا الى المدرسة.

أولاد الحارة الفوقية لم يأتوا معنا، إحسان الشركسي، رياض ابن التاجر، وآخرون.. لبسوا فساتين خضراء جميلة، وصعدوا إلى باص جاء خصيصاً لنقلهم إلى (الكلية العلمية) وهذه مدرسة بعيدة لا نعرف أين تقع.. يقال إن قسطها أكثر كثيراً من الخمسة عشر قرشاً قسط مدرستنا الذي يدفعه آباؤنا وهم يتأففون.

المشهد السرديّ هنا يتشبّث بالمكان ويصنع موقفه الفكريّ والثقافيّ والإيديولوجيّ من وحيه وطبقاته، ثمّة نحتٌ وَصَوغٌ للمكان السرديّ اعتماداً على المحتوى الإنسانيّ للفكرة الطبقية التي ينتجها وحي المكان، إذ تتشكّل الرؤية الطبقية للمكان بناءّ على مستوى الحدث وطبيعته ومُخرجاته الثقافية والاجتماعية، فمراكز الضوء السرديّ المكانيّ وقد تمثّلت بـ (الحارة/ المدرسة /صويلح/ الكلية العلمية/ مدرسة بعيدة) تشتبك حدثياً مع مفردات متماهية معها مثل (كرات القماش/الملابس المهترئة/بقايا معجون الجدران) في سياق مرجعية الحارة وتمظهراتها المرتبطة بحالة الفقر، ومفردات مضادّة مثل (إحسان الشركس/رياض ابن التاجر/فساتين خضراء جميلة/باص جاء خصيصاً لنقلهم/قسطها أكثر كثيراً من الخمسة عشر قرشاً...)، لتنتج الصورة السردية القائمة على حضور مكانين متضادّين يكشفان عن نوع من الصراع الطبقيّ الضمني بين حالين مختلفين، والكشف السرديّ هنا جاء بناءً على رؤية إنسانية أولاً، وإيديولوجية فكرية ثانياً، أسهمت في نحت المكان السرديّ وبنائه كي يستجيب لمتطلبات الفكرة ويستوعبها إبداعياً.

رائحة اللوز المرّ
في روايته ((رائحة اللوز المرّ)) يتسلّح الروائيّ قاسم توفيق بطاقات الأمكنة وحساسياتها النوعية والتفاصيلية المنطلقة من وحي الحدث، ليجعل منها أدوات فعّالة لتحقيق الرسم المعماريّ الواسع للمكان وهو يسعى للوصول إلى مرتبة النحت السرديّ، ويشير الراوي الذاتيّ بوصفه الشخصية المركزية إلى مجموعة من المقدّمات تحيل على فكرة غواية الرسم، والرسم في جوهره إنّما هو محاولة تشييد أمكنة عن طريق الخطّ واللون والكتلة واللوحة، لأنّ الرغبة التصويرية عند الشخصية هي رغبة تملّك المرسوم والهيمنة عليه وتسييره ضمن فضاء التخييل التشكيليّ للرسم. ولعلّ الإشارات الأولى تشتغل عند الشخصية في هذا السياق من حيث طبيعة الموهبة، وهي تتكشّف عن قدرات تتجاوز الطبقات الدنيا التقليدية لحضور فكرة الرسم إلى الانفتاح على الفضاء السيميائيّ الكاشف، إذ يتجلّى ذلك في شكل الاسترجاع السرديّ المعبّر عن علاقة الشخصية بالرسم:
تقول أمي إنني، ومنذ أن بدأت أتعلم فكّ الخطّ، كنت أهتمّ بالألوان، أكتب الواجب الذي تطلبه مني المعلمة ملوّناً حيثما يجب، وكيفما يلزم، لأعطي للكلمة دلالة أعمق مما تعطيه الحروف. لو حدث وكتبت كلمة حُب أو أُم كنت أكتبها بلون فاتح شفّاف أزرق كالسماء، أو ليليك مثل الوردة، وإن كتبت كلمة عشق كتبتها بلون عميق من الأزرق أو اللازورد. وإن ذكرت الخيانة أو الدم أو الموت، خططتها بالأحمر القانيّ، بعد أن أمزجه بالأسود، حتى يبدو ثقيلاً لزجاً يشبه القار. تعلمت مزج الألوان، ومعرفة دلالاتها وأنا ما زلت صغيراً لم أكمل المرحلة الابتدائية بعد.

كلمات ملونة
ولعلّ ما تحققه الصورة الاسترجاعية هنا هو التدخّل البارع في نموذج السلوك الفنيّ لدى ممارسة الرسم عند الشخصية، ولاسيّما حين يرتبط ذلك بالخطّ بوصفه دالّة مكانية جمالية تستجيب للتفنّن فيها على النحو الذي يثير المكامن المكانية للحروف والكلمات في حالاتها التصويرية، وهو نوع من تكريس الرؤية المكانية وتشكيلها سرديا بما يشير إلى العلامات السيميائية في فعالية الاحتواء السرديّ القائم على تمثيل فكرة الرسم بوصفها نوعاً من الرغبة في إعادة إنتاج المكان، وهو إنتاج جماليّ في شكله الخارجيّ لكنه ثقافي ورؤيويّ في مضمونه الداخليّ العميق:

الكلمات التي كنت أكتبها ملوّنة، وباستعمال الخطوط العربية التي أتقنتها في سنّ مبكرة، بدأت أزيد عليها مثلما أريد حتى تطاوع فهمي لمعناها، أو أحًرف فيها بإضافات إيحائية تجعلها تتحوّل إلى صورة متشكّلة من معنى الحروف وشكلها، أشكّل الكلمة حتى تصبح لوحة انطباعية، أو تشكيلاً رائقاً للنظر.

الرسم على هذا النحو ممارسة تشكيلية مكانية تكشف عن طاقة الشخصية في تكوين الأمكنة وبراعتها في نحتها على نحو جماليّ مبتكر، وهو ما يغذّي فكرة النحت المكانيّ على صورة تستجيب للنموذج الماثل في ذهن التخييل عند الشخصية، فالوصف السرديّ حين تعبّر عنه الشخصية على هذا النحو إنّما تجتهد في تمثيل الرؤية النحتية الخاصة في بناء الأمكنة السردية وتسييد تفاصيلها، على النحو الذي يقود إلى تطوير الفكرة السردية الأساسية في سياق تضافر عناصر السرد وتضامنها للسير قُدُماً في بلوغ المرحلة الاستكمالية لبناء الفضاء الروائيّ العام للرواية.

الفلسفة المكانية تهيمن على مخيلة الشخصية بوصفها المجال الأرحب القادر على تمثيل رؤيتها في الحياة والوجود، إذ لم تعد فكرة بناء المكان عن طريق الرسم فكرة مستقلة تنتمي إلى عناصر السرد الرئيسة في الرواية، بل انتقلت إلى فضاء وجوديّ فلسفيّ يصبح حضور المكان فيه نوعاً من الخلود، حين تحقّق اللوحة المرسومة وجوداً جمالياً إنسانياً في تأثيرها الجماليّ والثقافيّ على المكوّن المكانيّ المحيط بها، وهي تشعّ على الأرجاء كلّها وتنقل حساسيتها الفنية التشكيلية والمكانية على ما يحيط بها من أشكال وتفاصيل مكانية، تلتئم كلّها في سياق تشكيلي تمثيليّ سرديّ واحد. بمعنى أنّ تشكيل المكان السرديّ هنا عن طريق اللوحة وفتح فضاءات جديدة على هذا الصعيد، وما تنطوي عليه من قدرة على بعث الجمال في المكان التقليديّ هو نوع من الرؤية على هذا النحو.

الرسم والخلود
المهم أنيّ صرت أُدفع بيسر نحو الرسم، وصرت كأنّي أعي فكرة أنّ الرسم يمشي بي إلى الخلود أكثر من الكلمات المرسومة، فالكلمات هي أفكار تأتي بعدها أفكار تنسخها، أما الرسم فيظلّ خالداً معلقاً على جدار متحف أو قصر أو فندق خمس نجوم، أو بار هادئ منزوٍ في أحد الأحياء، يرتاده زبائن يألفون الساقي والكاونتر والرسومات.
إنّ جملة (أما الرسم فيظلّ خالداً معلقاً على جدار متحف أو قصر أو فندق خمس نجوم، أو بار هادئ منزوٍ في أحد الأحياء، يرتاده زبائن يألفون الساقي والكاونتر والرسومات.) تعكس هذه الحقيقة بصورة واضحة، فالأمكنة التي يمكن أن تضاعف معناها بوجود اللوحة فيها (جدار متحف/ قصر/ فندق خمس نجوم/ بار هادىء منزو)، تكون خالية من هذا المعنى الجماليّ الخالد قبل وجود اللوحة فيها. لكنّه بعد أن تتصدّر اللوحة المشهد المكانيّ تبدأ الأمكنة المجاورة لها والمحيطة بها بتشكيل معانيها الجديدة استناداً إلى رؤيتها المكتسبة بفعل وجود اللوحة فيها، والراوي يعبّر عن هذه الفكرة في السياق السرديّ الذاهب نحو إنتاج المكان بوصفه فكرةً وحضوراً وقيمةً وقدرةً على تثمير المقولة الروائية.

مرّة أخرى يظهر الجدار بوصفه مكاناً خاوياً يشيّده الراوي أو ينحته بطريقة مختلفة بوساطة ما يعلّق عليه من لوحات، أو صور، أو خطوط، إذ تشتغل كلّ لوحة أو صورة أو خطّ على إنتاج دلالة روائية معيّنة بحسب توجيه الراوي الواصف، وهو يسرد التفاصيل المكانية بلغة وصفية تقترب من اللغة النحتية:
على الجدار جدار غرفتي عُلقت صورة كبيرة لأمي، وأخرى لأبي تبرز وجهه بتفاصيله الدقيقة، عينيه الصافيتين العميقتين، جبينه العريض، أنفه الدقيق، فمه وقد علاه الشارب الصغير، بدت وكأنها التًقطت بهدف عمل هوية شخصية أو رخصة للسواقة. على الجدار المقابل علّقت أنا صورة للوحة «امرأتان من تاهيتي لغوغان»، التقطتها من إحدى المجلات. امرأتان من البولونيزين الذين يشبهون الهنود الحمر، نصفهما الأعلى عارٍ يظهر استدارة نهديّ واحدة منهما، وقد حملت بيدها طبقاً مليئاً بالورد، والثانية غطى ثوب أبيض نصف صدرها فبرز ثديها صغيراً بحلمة حمراء مستديرة. وجهاهما مستطيلان يبرزان عيوناً واسعة، وأنفين كبيرين، لكنهما متناسقان فوق الشفاه الممتلئة والخدود المكتنزة، التي تظهر حيوية واضحة، كل هذا الجمال الذي فتن غوغان استقر تحت شعر أسود ناعم.

مشهد مكاني

هذا المشهد المكانيّ المنحوت بدقّة وصفية عالية يتمظهر ويبثّ طاقاته الدلالية من سطح الجدار، وقد تحوّل إلى خلفية عمودية قائمة معدّة لحمل الصور المشبعة بقيم ودلالات ومعان يستثمرها الراوي لتوصيل فكرته الروائية من بؤرة المكان، إذ قسّمه على مناطق وتفاصيل بحسب طبيعة الصور ودرجة علاقتها بالشخصية، بما أنّ الجدار هو جدار شخصيّ (على الجدار جدار غرفتي) يحقق في انتمائه نوعاً من الحرية الشخصية في التعامل مع المكان وإنتاجه على الشكل المناسب له والمستجيب لرؤيته.

وحين تبدأ الصور بالظهور على شاشة الراوي في المكان الحائطيّ، تبرز صورة الأمّ في مقدّمة الحضور المكانيّ للصور، لكنّ الراوي يختزلها بالصفة ويسجنها فيها من غير تفاصيل تلوّنها وتنحتها كما يجب (عُلقت صورة كبيرة لأمي)، يكتفي بالصفة (كبيرة) للدلالة على الحظوة التي تكتسبها في ألبومه الحائطيّ، أما الصورة الثانية المشغوله بالتفاصيل الدقيقة فهي صورة الأب (وأخرى لأبي تبرز وجهه بتفاصيله الدقيقة، عينيه الصافيتين العميقتين، جبينه العريض، أنفه الدقيق، فمه وقد علاه الشارب الصغير، بدت وكأنها التًقطت بهدف عمل هوية شخصية أو رخصة للسواقة.). وثمّة نحت سرديّ واضح وبارز للصورة بوساطة إمكاناتها التفاصيلية والتأويل المرفق بها تشبيهياً (بدت وكأنها التًقطت بهدف عمل هوية شخصية أو رخصة للسواقة)، تعبيراً عن ملاحظة ذات طبيعة فنية قد تكون خالية من التموين العاطفيّ المتوقّع لتقديم رؤية عن أثر صورة الأب في الوجدان الخاص في شخصية الابن، وما يترتّب على ذلك من فضاء نحتيّ آخر للصورة ظلّ غائباً حتى فيما يتعلّق بصورة الأم وقد اكتفى الراوي باختزالها نعتياً بالصفة (كبيرة).

جمال نوعي
على العكس من ذلك ينشغل الراوي الواصف في الصورة الأخرى على الجدار الآخر من غرفته حيث تهيمن صورة للوحة غوغان عنوانها (امرأتان من تاهيتي)، حين تتحوّل عين الراوي إلى رسّام جديد يعيد رسم اللوحة بصرياً وسردياً، مقترباً من نحتها على ظهر المكان بطريقة عاطفية ووجدانية وإيروتيكية بالغة الحضور، فيسرد الراوي المكان سرداً تشكيلياً يعيد فيه إنتاج اللوحة. ويبدأ سردها النحتيّ على لسان الراوي وكأنّه يعيد إنتاجها تشكيلياً ضمن قراءة خاصة به لا تكتفي بالوصف التقريريّ (امرأتان من البولونيزين الذين يشبهون الهنود الحمر، نصفهما الأعلى عارٍ يظهر استدارة نهديّ واحدة منهما، وقد حملت بيدها طبقاً مليئاً بالورد، والثانية غطى ثوب أبيض نصف صدرها فبرز ثديها صغيراً بحلمة حمراء مستديرة. وجهاهما مستطيلان يبرزان عيوناً واسعة، وأنفين كبيرين، لكنهما متناسقان فوق الشفاه الممتلئة والخدود المكتنزة، التي تظهر حيوية واضحة، كل هذا الجمال الذي فتن غوغان استقر تحت شعر أسود ناعم.). وهو ينتهي إلى تقدير فتنة غوغان بالجمال النوعيّ وقد تمكّن غوغان من صنعه، وتحوّلت الصورة إلى مثير ومنبّه تشكيليّ يملأ المكان السرديّ الخاصّ بالشخصية حياةً ورغبةً وجمالاً غزيراً يخصّب المكان الجداريّ ويشحنه بالرؤية، ويُكمل ثراء من جانب آخر في الجدار المقابل صورة الأم والأب، على النحو الذي يوفّر الحراسة الجمالية الكافية لحياة الشخصية داخل غرفته.

المكان في روايات قاسم توفيق لا يرتهن بالصيغ التقليدية في الكثير من الروايات العربية وهو يتوزّع عادةً بين مكان أليف ومكان معاد، إذ ليس ثمّة فاصل بين التشكيل المكانيّ القائم على الرصد الدقيق والتصوير التفاصيليّ المعمّق لجزئياته وزواياه وجيوبه وطبقاته وظلاله، وبين حرارة الحدث السرديّ وتقلّباته وتحوّلاته وتمظهراته البطيئة والسريعة، لذا ينبني المكان وتعلو عمارته السردية في قلب الرواية اعتماداً على جوهر العلاقة بين المكان والحدث من زوايا نظر كثيرة. فالأمكنة الضيّقة، والأمكنة الواسعة، والأمكنة الواصلة، والأمكنة الثابتة، والأمكنة المتحرّكة، والأمكنة الواقعية، والأمكنة الطيفية، والأمكنة الحلمية، والأمكنة المنزلية الطارئة، والأمكنة البيتية الدائمة، أمكنة العيش وأمكنة المتعة، أمكنة الهدوء وأمكنة الضجيج، تتجسّد كلّها على أنحاء مختلفة في دينامية الفضاء الروائيّ عند قاسم توفيق بطريقة غير متكلّفة وبعيدة عن الافتعال، يتفتّح المعطى المكانيّ السرديّ في هذه الروايات ضمن حراك روائيّ يتمتّع بقدر عال من الرحابة التشكيلية.
(الدستور)





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :