كنفاني متنكر .. بقلم .. عزت القمحاوي
22-12-2007 02:00 AM
ليس في كتاب مروان كنفاني سنوات الأمل الكثير من الأسرار حول الثورة الفلسطينية، فكثير من الوقائع التي يذكرها معروفة، حتي ولو بصورة أقل تفصيلاً. وبهذا المعني فإن أهم أسرار الكتاب هو مروان نفسه!
يكشف كتاب مروان عن كنفاني آخر كان بوسعه أن يصبح روائياً لكنه تنكر في قميص لاعب كرة مرة، وفي ثياب دبلوماسي مرة، وناطقاً باسم أبو عمار مرة تاركاً ملعب الرواية لشقيقه غسان الذي سيبقي أحد أهم الاصوات الإبداعية الفلسطينية.كنفاني، مروان، يقدم الكتاب/ الشهادة بمقدمة شخصية تمثل سيرة لأسرة كنفاني التي يعود جدها الأول إلي المغرب العربي ووصل إلي عكا في حملة إبراهيم باشا عندما كان الجيش المصري مزيجاً من جنسيات مختلفة بينها محترفون من المغرب والسودان، وقد سميت العائلة بلقب العاشق، الذي أعطاه غسان كنفاني عنواناً لإحدي قصصه، ويقول مروان إن إبراهيم باشا هو من خلع اللقب علي الجد، عندما احتفظ في يده ـ أدباً أو رهبة ـ بجمرة سقطت من نارجيلة كان يقدمها للباشا الذي سأله: هل أنت عاشق حتي لاتشعر بلهيب النار؟!
في سرد سلس ومؤثر، يأتي مروان علي تغريبة عائلة كنفاني، وقد بدأت بالهجرة إلي لبنان، التي بدت لهم كما بدت لكل الخارجين في وقت النكبة رحلة أيام يعودون بعدها إلي ديارهم في يافا. لكن الغيبة طالت، وتفرق الأعمام والعمات في أكثر من مدينة.
وكان نصيب محمد فايز كنفاني وأولاده الأربعة سكني دمشق، وقد عمل مروان مع شقيقه غسان بعض الأعمال الموسمية العنيفة إلي جانب دراستهم، ورغبة في إسعاد قلب والده التحق مروان بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، واحترف الكرة في أحد النوادي المصرية الكبيرة، وكانت أول وظيفة دائمة له في إدارة شؤون فلسطين بالجامعة العربية. حتي يبدأ في عام 1986 بدعم من بسام أبو شريف في العمل مستشاراً لعرفات ومتحدثاً باسمه، حيث كان طرفاً مشاركاً وشاهداً في الأحداث التي مهدت إلي عودة السلطة الفلسطينية عام 1994.
تفرقت أسرة كنفاني بين المدن والقبور المختلفة باستثناء أرضهم وبيتهم، التي حملوا أملاً بالعودة إليها لم يتحقق.
بعد هذه الصورة الجماعية للعائلة، يبدأ كنفاني في تقديم شهادته حول سنوات الألم بجوار عرفات، مؤكداً أن الفلسطينيين الذين اتفقوا عبر أجيال طويلة علي الاحتفاظ بقضيتهم حية، اختلفوا علي من سيحكم فلسطين!
ينطلق مروان كنفاني من واقعة وفاة ياسر عرفات في لندن، والوداع المؤثر في باريس، وجنازة القاهرة، أو بالأحري، من جنازتين فصلهما حاجز بين من سمح له بالدخول وبين من سار في تواز خارج الأسوار، وقد بدت الجنازتان جنازة واحدة في التصوير التليفزيوني.
وربما لم يقصد كنفاني استخدام رمزية الجنازتين، لكن هذا الانفصال بين المظهر والجوهر كان قد بدأ قبل سنوات طويلة!
بعد تذكير مؤثر بالموت التراجيدي للرجل الذي ظل أباً لقضية وشعب عشرات السنين، يعود ليرصد دبيب الموت الذي بدأ مع حصار عرفات، وقد كان في جوهره قراراً إسرائيلياً بموته.
ومن الذروة التراجيدية يعود مروان كنفاني بطريقة الفلاش باك فيبدأ القسم الثاني من الكتاب بالمحطة الأولي في منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، التي وافقت علي استقبال أحمد الشقيري المعين زعيماً للشعب الفلسطيني بقرار عربي في قمة 1964، ومن الأردن إلي لبنان وتونس ومصر، ويمضي في البناء التصاعدي مرة أخري، فيخصص الجزء الثالث من الكتاب لمسيرة السلام، من الاتصالات مع واشنطن إلي مؤتمر مدريد، فأوسلو، وغزة أريحا.
وبعد ذلك العودة إلي الوطن، أو بالأحري مجرد رائحة وطن، والسنوات الأولي من العودة، ثم تكشف تعثر فانتهاء عملية السلام وأسئلة ما بعد عرفات، أو ما بعد اكتمال الدائرة والعودة إلي درجة الصفر.
عبر صفحات الكتاب يبدو كنفاني متفهماً لكل تصرفات الرئيس عرفات، وإن سجل اعتراضه علي بعضها في مواجهته، فيما يروي عن نفسه، لكنه يشرح بعد هذه السنوات، كيف كان عرفات مدفوعاً إلي فعل ما فعل في كل مرة، بسبب العديد من التوازنات التي تشل حركته.
كان عليه دائماً أن يوازن بين العائدين والمقيمين، بين حماس وفتح، بين المعتدلين والمتشددين من العرب، بين تفهم دوافع العملية الاستشهادية وبين ضرورة إدانتها، ولذلك كانت قرارات عرفات دائماً عرضة لإساءة الفهم والتأويل، كأن تطالب إسرائيل بتسليم قيادة تتهمها بالإرهاب فيسارع عرفات لإعتقالها معلناً عن محاكمة فلسطينية، وهو الأمر الذي يعتبره التنظيم الفلسطيني رضوخاً لإسرائيل، وتعتبره إسرائيل تمثيلية لإسقاط الاتهامات عنه، بينما لم يقصد عرفات أياً من التأويلين، لكنه كان يرغب في حماية هذه القيادة من الاغتيال أو الخطف.
كان أبرز مثال علي هذه التراجيدية اعتقال أحمد سعدات أمين الجبهة الشعبية المنتخب بعد اغتيال إسرائيل لقائدها أبو علي مصطفي، وما تبعه من رد الجبهة باغتيال الوزير الإسرائيلي رحبعام زائيفي في فندق بالقدس الشرقية. وقد ترتب علي الضغوط الإسرائيلية التحفظ علي سعدات في السجن المجاور لمكتب عرفات. ولم يعجب هذا الجبهة، كما لم يعجب إسرائيل التي اجتاحت المقر الرئاسي، ودمرت العديد من مبانيه وقتلت من حراسه، كما هددت بهدم المبني الصغير بهدم الجدار الذي يفصل بين سعدات والمطلوبين في زائيفي وبين الرئيس.
الأزمة التي انتهت بعد ذلك بوساطة دولية نقل بموجبها المحتجزين إلي سجن فلسطيني تكشف عن عمق الدراما الفلسطينية، من خلال التلازم بين الرئيس وسجنائه تحت تهديد القصف والاجتياح الإسرائيلي، حيث يبدو كل شيء مجرد تمثيل لحقيقة أخري بعيدة، فلا الرئيس رئيساً، ولا السجان سجاناً، ولا السجين مذنباً.
ووسط هذه الدراما تبدو الصراعات علي سلطة هشة ولم تبدأ بعد قمة الملهاة، في هذه الكوميديا الأرضية التي كشفت عن المواهب السردية لدي كنفاني آخر فاته أن يكون روائياً.
عن اللغة وفضيلة التواضع:
أتمني علي من يتصدي لأخطاء اللغة، أن يتحلي بالرفق والتواضع، فلغتنا ليس لها كبير، ولنا في هذا الجناس الجميل من عمر بن الخطاب عبرة: ألحن الناس من لا يُلحن الناس أي أن أصح الناس من لا يرمي الناس بالخطأ، والتصحيحات الثلاثة التي اصطادها قاريء كريم ـ بثقة شديدة وتعال ـ من مقال الأسبوع الماضي ليست أخطاء بالمرة.
زجرني لأنني قلت إن ثروة أوبرا تخطت المليار دولار، ويريدني أن أكتبها مليار الدولار، واقتراحه هو الخطأ، ففي ألفاظ العقود تدخل الـ التعريف علي الرقم وليس علي تمييزه.
وكتبت: الريموت كنترول بيدها يعمل بكفاءة، ويريدني أن أكتبها كفاية، والأولي تصف الكيفية وهو ما قصدته، وما يطلبه يصف الكمية، وهو ما لم أقصده!
وختاماً، نصل إلي ثالثة الأثافي، كتبت أنا الرئيسي ويريدها القاريء اللبيب الرئيس وهذه بدعة في بعض الصحف ، لكن الصح هو رئيسي بياء النسب، لأنني أقصد صفة، ومن شروط الصفة أن تكون مشتقة لاجامدة، وياء النسب تحول الجمود إلي قابلية للاشتقاق، وقابلية النقص والزيادة، نقول فقط إن الله عليم، إذ لايزيد علمه ولاينقص، لكننا لا نقول: رئيس، بل رئيسي.
عن القدس العربي .