ليلة إخلاء ممطرة/(قصة قصيرة من كتاب الضباب والدموع للكاتب الصحافي جودت مناع)
mohammad
07-12-2006 02:00 AM
ليلة هي الأصعب ، وقد تكون أسهل الليالي القادمة …لا أعرف
َصرخت... الليل شديد السواد ، وصوت الريح أعلى من صرختها ، ليلة ممطرة سوداء ...لم أرى شيئاً … يا ألهي ...أنه صوت "سماء" فتحتُ عيناي... نهضتُ... لم أعرف إلي أين أتجه ، َصرخت...لم أستطيع التمييز بين صوت " سمائي " والسماء ، فصوت الريح الممزوج بصوت المطر يشبه صوتها ، هل بكت "سمائي" على صوت السماء ؟ أم أن السماء أعلنت تضامنها مع صوت "سمائي" ؟ اتجهتُ إلى الصوت ، أوقفني صوت سيارات الإسعاف الذي غطى على صوت الريح والمطر ، احتضنتها قبل أن َيحتضنها ضوء سيارة الإسعاف الأحمر ، هدأت ..ظهر اللون الأحمر واختفى وبقي الأسود ، وظهر الأحمر مرة ثانية َصرخت ، لم أعد أتذكر … ليلة سوداء أم حمراء ؟ أم الاثنتين معاً ؟ أوقدتُ الشمعة… اتجهتُ إليها …َفتحت عيناها ، رأت " سماء " تتعلق بعنقي ، وَسمعت صوت السماء ، َنهضت .. َتحركت باتجاه الشمعة ، لم تتفوه بكلمة واحدة َأخذت الشمعة مسرعةً باتجاه غرفة الأولاد …َصرخت ، اختفى الضوء الأصفر وبقي الأسود والأحمر …صرخة أخرى تناديني … لكنها من الاتجاه المعاكس يا الهي … من المنادي ؟ إلى أي الصرخات أتجه ، ذهبت للصرخة الأقوى فقد تكون هي الأعمق جرحاً ، نعم ذهبتُ للاتجاه المعاكـس ،َدفعت الباب بقوة .. رأيتها ، داهم اللون الأحمر وجهها ثم الأسود … بكت بأعلى صوتها "جهاد" .."جهاد" سمعت بأنهم قصفوا مقر الأمن الوطني ، الضوء الأصفر لم يعد موجوداً ، ولكني أسمع صوت كفيها تلاطم الأرض ، يبدو أنها واصلت السير بعد أن اختفى الضوء الأصفر ، كانت لفات الضوء الأحمر تساعدني ، أوقدت شمعة أخرى ، اتجهتُ إليها فوجدتها كمن يتعلم السباحة تفتش وتبحث وهي مستلقية بينهم ويداها الاثنتان تجدف من وجوه أطفالنا إلى قدماهم "سماء" تصرخ وهي تحتضنني لا تريد أن تتركني ، …أم "جهاد" مازالت تصرخ بصوت يغطي على "سماء " والسماء ، ، لقد رأيتُ خيالهم على الأرض الحمد لله … لقـد تحـركت شـفتا الخـيال الأطـوال أبن الحادي عشرة "صامد" أنها طائرات أف 16 …فتحركت شفتي الخيال الأقصر أبن التسعة أعوام "مجد" أنت لا تعرف في الطائرات أنها أف 32 … "صامد" ولكن لا يوجد طائرات أف 32 … "مجد" هم طائرتان 16و16 يعني 32 ، وسامعين هذا صاروخ لاو …ولكن "صامد" حاول أن يؤكد له بأن هذا صاروخ أرض أرض ، وليس من الطائرة …تعالي يا "أم جهاد" ، أدخلوا جميعاً في هذه الغرفة وسأذهب لا حضر "باسل" من البيت… لا..لا تذهب ، لقد ذهب عند سماع القصف ليطمئن على شقيقة ، يارب أستر يارب ، لم أخرج من الدنيا إلا بهذا التوأم …لا يزال قصف الطائرات وصوت الإسعاف مستمراً ، لم تتوقف "أم جهاد" عن البكاء ، ولم أحتمل البقاء في البيت، يجب أن أذهب لأطمئن على "جهاد".. "أم جهاد" لا تريد أن تبقي هي الأخرى ألهي …خطوات تجري على الدرج ، أعرفها جيداً أنه "باسل" يسأل عن والدته وهو يبكى …رأيته…ورأته …يبدوا أنها ورغم إصرارها السابق على أنها فقدت "جهاد" ، قطعت الشك باليقين ..سقطت أرضاً ألهي.. ما هذا هل إغماء أم حالة وفاة… صرخ "باسل" أمي..أمي اصحي يا أمي ، من سيبقى لي بعدك …عندها شعرت بما شعرت به سابقاً ، لا أعرف كيف وصلت للطابق السفلي .. تأخر في فتح باب منزله… خافت سماء من سواد الدرج ، َصرخت ..فكرتُ بالصعود ثانية ، صعدتُ نصف المسافة ، سمعتُ فتحة الباب ، وقفت والتفت بطرف عيناي …رأيتها تحمل شمعة في يدها ، والعصا التي تتكئ عليها في اليد الأخرى...أنها أم "العبد" المسنة ...أين د."عبد"…اتصلوا به يا بني ...وقالوا له يجب أن تحضر بسرعة في حالة طوارئ ..مع أننا منذ خمسة وخمسون عاماً في حالة طوارئ...تركتها ، صعدتُ إلى المنزل ، الحمد لله... أم "جهاد" تحرك رأسها يميناً وشمالاً وهي مستلقية على الأرض ، ورأسها في حضنه "باسل" الذي نظر اللي فانهمرت دموعه ، ألهي .. هل هذه الدموع على والدته أو على"جهاد" ، خفت أن أسأله ، وخافت "سمائي" فألقت بنفسها في حضن والدتها التي تمسك بزجاجة ماء بارد ، و"صامد" يمسك بالشمعة التي أوشكت على الانتهاء ،سمعتُ صوت الأبواب تفتح ...صوت خطوات على الدرج من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى ، تحدثوا بصوت خافت ، وصلوا باب المنزل ، َفتحت عيناها، َصرخت بأعلى صوتها أين "جهاد" ، أطفأت الشمعة واختفى الضوء الأصفر ... لم أعد أرى شيئاً ، أخذ صوت أنينها يبتعد أدركت أنها خرجت في السواد ويبدو أنها ترى بقلبها ، اندفعتُ خلفها أمسكت بكتف يبدو أنه "باسل" الذي هرول خلف والدته ، اقتربتُ من الأنين وبقي في نفس الارتفاع وهذا يؤكد على أنني أهرول خلفهم بنفس السرعة،وما زالت أصوات تساؤلات ماذا حدث ؟ كيف ؟ متى ؟ أين ؟ من ؟ التساؤلات تقترب يبدو أنهم يهرولون خلفنا ، بدأت أرى يدي على كتف باسل وبجانبها يداً أخرى ، فهي يد أم "العبد" التي اتكأت على كتفه الآخر ، فهذا ضوء الشمعة الأصفر ، والعصا مازالت في يدها وفي نفس المكان...تمتمت بكلمات لم أفهمها...خرجنا للشارع ، صفير الرياح عالي ، لم أميز بينه وبين صوت الإسعافات ، لم أرى السماء من سواد غيومها ، المطر غزير، يشبه دموعها، لقد اختلطت بدموع السماء... خطوات كثيرة أسمعها تصاحب خطانا ، وفي اللحظة التي يمر فيها إسعاف وبسرعة هائلة، أسمعها تحدث نفسها...لا ليس هو...الطائرات تحلق في السماء وتقذف بصواريخها... رفعت رأسها عالياً اعتقدتُ بأنه آثار اهتمامها ... اقتربت منها...أنها تناجي الخالق بأن يحفظه...وصلنا المستشفي...جموع من الناس تتحرك. .دخلنا غرفة الاستقبال ...عشرات الأمهات تقف بجانب أسرت المستشفي... تنقلت بينهن تسأل عنه... وعشرات الشباب ينظرون إليها ، هل رأيتم جهاد ؟ هل جهاد بخير؟ لقد كان من بينهم من يوحي بأنه لم يراه، ومنهم ترى في عينيه بأنه رآه ولا يريد أن يقول شيئاً ، ومنهم في غيبوبة كاملة ، لم يحتمل "باسل" هذا الموقف... ناداها تعالي نرى "جهاد" .. تقدم بخطوات للأمام والخلف ... َدفعته‘ من خلفه فأسرعت خطواته إلى الأمام ...إن هذه الخطوات المتناقضة تدل على وجوده المسبق في المكان ... وصلنا الطابق العلوي... وقفَ على باب إحدى الغرف، يبكي بصوت مرتفع ...تراجع إلى الخلف ...َدفعتْ الباب بقوة لتراه شهيداً حياً ينتظر لقاء ربه...لم تنطق بكلمة واحدة ، وبكت بصوت أصبح مثل "جهاد" .. و"باسل" يقف خارج الغرفة واضعاً عينيه بين كفيه ينظر من بين أصابعه الممتدة على عينيه ليقفلهما تارة ويفتحهم تارة ، ينظر من بينهما إليها... قبلته من وجهه ويداه ...دخل الجميع ليودعوه... مسكتُ يدها...لم تقاوم للمكوث في الغرفة...عدنا إلي البيت، لقد أصبحت في حالة صعبة جداً ، ولا تعي شيئاً ... "أم العبد" ما زالت تقف بالشمعة والعصا على باب المنزل ... آيات من القرآن الكريم على روح الشهيد... الجميع جاءوا للمشاركة ، ولكن أين "باسل"؟ لقد اختفى ، وأين "صامد"؟ هل ضوء الشمعة لا يسمح لي برؤيته أم اختفى هو الآخر ، ذهبتُ إلى حيث توقعت أن يكون ، لقد كان في إحدى زوايا البيت يضع وجهه في الزاوية.. ناديته "صامد".. لم يلتفت .."صامد"… التفت إلي ..نظر إلي بعينيه التي لم أرى فيها البياض.. رغم الفارق الزمني بينهما إلا أنه رحمه الله كان دائماً يلاعبه ، ويحكي له القصص ، ووعده في المرة الأخيرة بأن ُيحضر له القطار…"صامد" لماذا تقف وحدك هنا ؟ نظر إلي بعينيه التي يغمضها أحياناً ويفتحها أحياناً ودموع سوداء تنهمر من عينيه لتصل إلى شفتيه التي ترتجف ، فيخرج من بينها كلاماً متقطعاً ... أين "جهاد" ؟ كيف لي أن أقول له ؟ هل أكذب عليه ؟ لا لا .. لماذا يبكي ؟ من المؤكد بأنه يعرف باستشهاده. . ولماذا يسألني؟ سأحكي لك لاحقاً.. تعال ولا تقف وحدك هنا... قلت لك أين "جهاد" ؟ سكت ولم أجيبه ...أستشهد أليس كذلك ؟ ووضع رأسه في الزاوية باكياً ...صوت آذان الفجر الله أكبر الله أكبر... تمرد على الواقع ، متحدثاً بصوت خافت متقطع كـلنا "جـهاد" ، ولا بـد أن يـبزغ الفـجر .
Jawdat_manna@yahoo.co.uk