أطلّ العام 2018، وحمل معه الذكرى السنوية العاشرة على رحيل واحد من أهم الأشخاص والعلماء الذين أحبّوا الأردن، أرضاً وماءً وانساناً. ومن النادر أن تجد شخصاً يقول أنّه يريد أن يرقد بعد رحيله، في بلد غير بلده الأصلي، لكنّ الأمر مع الأب الراحل ميشيل بيتشرلو، مختلف تماماً. فقد اختار هذا الراهب الفرنسسكاني أن يوارى الثرى عند جبل نيبو الذي أحبّه وأفنى سنوات عديدة فيه باحثا وعاملاً ونابشاً بين أنقاض الماضي، ليعطي العبرة والدروس لإنسان اليوم.


ولد هذا الكاهن الايطالي الأصل في كازانوفا في مقاطعة كاسيرتا عام 1944، وقد سحرته الأرض المقدّسة فكانت من أثمن أمنياته منذ طفولته. فأتى إلى بيت لحم على عمر 16 عاماً ودرس فيها ثم في القدس، وأصبح راهباً وكاهناً عام 1969. وذهب إلى روما ليتخصّص بعلم الآثار، وعاد عام 1974 إلى القدس ليبدأ مشواره الأكاديمي، في كلية الفرنسيسكان، وبرز كعالم آثار بالتعاون مع زميله الأب بيلارمينو باجاتي. وأتى إلى جبل نيبو في عام 1976 فعمل على تحديد مقام النبي موسى، واكتشف جرن المعمودية وقطع فسيفساء لا تقدّر بثمن وتعود إلى القرن السادس.


وفي عام 1987 ابتدأ العمل في أم الرصاص المدينة الغائرة في التاريخ، ومذكورة في الكتاب المقدس باسم «كاسرتون ميفعة»، وبيّن كيفية التعايش الفطري بين مسلمي البلدة ومسيحييها، حيث استمر فيها بناء الكنائس بعد مجيء الاسلام ، وأصبحت واحدة من المقاصد السياحية الفريدة في بلدنا الحبيب، واعتمدتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي في عام 2004.


وعمل بيتشرلو مدرّساً، منذ عام 1987 إلى 2000 في معهد الكتاب المقدّس البابوي في روما. وكان من العاملين الأوائل على إعادة اكتشاف بيت عنيا وموقع المعمودية المغطس، برفقة صاحب السمو الملكي الأمير غازي بن محمد المعظم، وبالأخص في التحضيرات السياحية لاستقبال عام اليوبيل الكبير 2000، الذي زارنا خلاله البابا (القديس) يوحنا بولس الثاني، وكان الراحل بيتشرلو دليله السياحي على جبل نيبو. وألف العديد من الكتب التي تتحدّث عن الفسيفساء والآثار في نيبو وشمال الأردن وأم الرصاص وفي أماكن عدّة في فلسطين.


داهمه المرض عام 2008 وغادر الحياة الأرضية في تشرين الأول في إيطاليا، وتمت له مراسيم صلاة مهيبة في عمان، لينقل إلى مواراة جثمانه الطاهر في جبل نيبو المكان الأحبّ إلى قلبه.


تحلّ الذكرى العاشرة وفي القلوب الكثير من الحب والشكر والعرفان. وفي الأذهان تفكير بكيفية ايفاء هذا الرجل حقه من التكريم. وقد خصّص المركز الكاثوليكي للدراسات والاعلام، على التقويم الذي يعدّه سنويا، شهرا كاملا للحديث عن الراحل بيتشرلو، وهنالك مشروعان في طور الاعداد لهما في المركز ذاته. وفي ندوة عقدتها أخيراً السفارة الايطالية بالتعاون مع مؤسسة طلال أبو غزالة بعنوان « ايطاليا والثقافة وحوض المتوسط»، تحدّث عالم الفسيفساء الايطالي فرانكو شيوريلي عن بعض مبادرات لاحياء الذكرى العاشرة لرحيل العالم الكاهن بيتشريلو، لكنّنا نود أن نسمع عن مبادرات وزارة السياحة والاثار، ووزارة الثقافة والجهات المختصّة الاخرى ، فلم نشهد على مدار تاريخ أردننا الحبيب شخصا صديقا محبّا للاردن مثل الأب بيتشريلو، وحق علينا أن نوليه العناية والتكريم اللائقين: كأن نسمي مكتبة أو مدرسة أو شارع أو صندوق او كلية آثار جامعية باسمه... المقترحات كثيرة ، لكنّنا بحاجة الى تضافر الجهود لتحقيقها.

 

abouna.org@gmail.com


الرأي