اغتراب أمّ .. هدى محمد الرواشده*
08-07-2009 02:22 PM
حين يموت لنا عزيز ما ، فإنّ هول المصيبة تحد من شدة وطئتها أيّام العزاء ، ننشغل بالمعزين ، وقد نصاب بنوبة ضحك هستيري ، وهكذا شُغِلْتُ باكتشاف مكاني الجديد ، وكأني ولدتُ لا أعرف من هما أبواي ، أمرّ في فترة صمت كأيّ طفل رضيع ، استكشف المكان بتفاصيله فأكتسبُ ما أحتاجه بالتودّد ممّن حولي ، أتعلّم الحبو فأمشي ، أناغي فينطلقُ لساني، أغدو كيانا على أرض ألقاني عليها للتو رحمُ طائرة تزوّدت بما يكفيها من وقود ، ثمّ مضتْ في وجهتها لتلقي ربّما بأجنة غيري في أماكن أخرى .
لم يبدُ المكان موحشا كما توقعته ، و لم ينتابني كثير إحساس بغرابة ، فبدا المكان حنونا بعض الشيء ، كيف لا!ّ فلساننا واحد ونبيّنا واحد ، وان اختلفنا يوما !
لكنّ هذا لم يمنع من أن يختلجني الشوق و الحنين لأهلي ولوطني الأمّ و يتمادى الشوق ، فيفتك بي فتكا ، يطرحني مكتئبة ، فلا أملك إلا أن أجلس القرفصاء في إحدى زوايا غرفتي ، وقد أحشرُ نفسي بين جدار وأنبوبة غاز ، أمرّ في صمت مطبق لأكثر من ساعة ، أهملُ نظافتي الشخصية فتفوح رائحة العفونة منّي ، أستاء لدرجة الاشمئزاز إذا طرق أحد ما بابي بحجة الاطمئنان على صحتي ، رنين هاتفي أخاله سمّا ينسكبُ في أذنيّ ، أن أجمِّد جل اهتماماتي ، أدعُ غيري يتقاسم مصدر رزقي ، أجعُ من مكاني سجن أنا فيه السجين والسجّان، لا تقتحمُ مسمعي إلاّ دويّ الطائرات يزلزلني وهي تدخل وتغادر ، فما من طائرة كانتْ تمرُّ إلاّ و فطر قلبي دويُّها ، قد تكون إمّا قادمة أو مغادرة نحو وطني ، أو ربّما إخترقتْ مجالَه الجويّ فَعَلِق عليها شيء من غباره ، فأهرع نحو الشرفة ، أنادي بأعلى صوتي لكنّ صداه يخذلني .
أرغمُ جسدي المتثاقل بالتحرك نحو العمل ، مظهرة التعافي والنشاط ، ترسمُ شفتاي المتيبستين ابتسامة بطرفة عين ، تحتاج دهرا كاملا لتتشكل ، فتتشققان و تتشقق معها وجنتاي. أفتحُ كتابا وألقي برأسي داخله لأخفي كآبتي المحرمة ، فتقتحم صورة ابنتي الموضوعة سهوا بصري ، تهوي دموعي شلاَلا ماء فتتحلّلُ ألوانَها بعد أن تكون قد حرّقتْ وجنتي ، و تشكّل لهما مجريان خاصان كلما تكرّر الموقف . فأجد نفسي طريحة فراش أحد أسرّة المستشفى مستسلمة لحقنة مهدئة ومحلول تغذية .....
أن ينال مني صراعا الشوق و التمسك بمصدر رزق يوفّر لي مأوى دون أن أكلف نفسي وأهلي العناء ، فأختصر سنوات الشقاء . أنْ لا يسمح لي بإطفاء نيران أشواقي إلا بورقة صغيرة تحتاج إلى ظرف قاهر لأحصل عليها ، فتوسوس لي نفسي بأفكار شيطانية كأن أهِمُّ بإلقاء نفسي أمام إحدى السيارات ، أو أتدحرج من أعلى سلالم أحد المجمًعات ، فأصاب إصابة غير بالغة ، تمنحني شرعيّة التحليق نحو مطفأة أشواقي...............
hudaraw@yahoo.com
عضو ملتقى الكرك التقافي