رسالة عتب إلى أبوي .. !! .. بقلم : الدكتور عمر الحضرمي
09-12-2009 12:50 PM
أبوي،
السلام عليك من الله الرحمن الرحيم, سائلاً العلي الغفور الودود أن يشملك والمؤمنين برحمته التي وسعت كل شيء، وأن يدخلك وإياهم الجنة بغير سابقة عذاب؛ وهو الذي خلق كل نفس فألهمها فجورها وتقواها، واستقر القول عند التقوى. وأرجوه عظم سلطانه, وأدعوه جل جلاله, أن يسامحك والمؤمنين حيث لا تضره كل معاصيكم ولا تنفعه كل طاعاتكم.
أبوي،
بشهادة كل من عرفك كنت إنساناً بسيطاً طيباً فأحبوك، وكنت ودوداً فلم تُُسجَّل عليك أيّة ملامة من أي من البشر. والحمد لله أنك لاقيت وجه ربك هادئاً مطمئناً لأنك كنت فقيراً، إذ لم تكن تملك من حطام الدنيا شيئاً يذكر، وكان ذلك فضلاً من الله, لأنك لم ترد أن تخلّف وراءك أي خلاف، مثلما لم تفعل في حياتك.
كان أحدنا يمتلأ اطمئناناً وسكينة, عندما يلاقينا أحد ممن كانوا يعرفونك، فيذكرك بخير، ويقول عنك كلاماً فيه المحبة والدعاء لك بالرحمة. وكان الجميع يؤكد أنك كنت "بسيطاً".
أبوي،
ولكن بعد أن تزايد عدد أيام ألافتراق بيننا، إذ أنك دخلت مساكن الدار الآخرة الباقية, وأنا لا أزال أرسف في أغلال الدنيا الفانية، فإني, وأنا أدعو لك الله أن يتغمدك بالمغفرة، عاتب عليك، وأنا واثق أن ذلك لن يثير كدراً في نفسك، فالموتى صادقون في محبتهم ، لا يعرفون غير قول الحق ولو على أنفسهم. عتبي عليك أنك لم تتسلم منصباً في حياتك بالرغم من أن ذلك كان مُتاحاً لمن عِلْمُهم في مثل عِلمك المتواضع. فلو كان لك ذلك المنصب، يا بوي، لكنا، نحن، من تركتنا بعدك ، ننعم في ظلاله. أعرف يا أبوي أنك ستقول؛ ولكن يا ولدي هناك كثيرون تسلموا مناصب دون أن يكون آباؤهم كذلك. وردّي يا أبوي أن أكثر منهم بكثير من تسلموا مناصب لأن آباءهم كانوا كذلك.
أبوي،
لو كنت وزيراً لأصبح اسمك إلى اليوم, وإلى ما بعد مئات السنين المرحوم "معاليه". وأصبحنا نحن أبناء "معاليه". واصبح اسم أمي حرم "معاليه". حتى أبناء السائق الذي كان يعمل بمعيتك وأحفاده، فسيعرّفهم الناس بأنهم أبناء سائق "معاليه". وتأكد يا بوي لأصبحت أنا أيضاً "معاليه" ابن "معاليه", ولفُتحت لي أبواب العلم في أحسن الجامعات، بالرغم من أني كنت محظوظاً فدرست في أحدها، ولكن ذلك كلفني جهداً مرهقاً حتى وصلت إليه.
يا بوي،
ماذا لو سعيت لتصبح مديراً على الأقل، متناسين مرتبة الوزير، لأصبح اسمك أيضاً، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، "عطوفة" المرحوم بإذن الله. ولأصبحنا نحن أبناء "عطوفة" المرحوم وأحفاد أحفادنا سيحملون هذا اللقب. قل لي بربك ماذا عليك لو تركت لنا مثل هذا الإرث بعد أن لم نجد مالاً منقولاً أو غير منقول بعدك.
يا بوي،
أنا فقط أريد أن أتواصل معك، وتأكد أن محبة الله ورضاه، ومحبة سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة الناس أغلى من كل إرث وأغلى من كل المناصب، وهذا لا يتأتى لأي إنسان إلا أن يكون غير منشغل النفس بفتات الدنيا وغرورها. وتأكد يا بوي أن خير الدنيا وخير الآخرة هما في النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضيةً مرضية، فتدخل في عباده ويُسكنها جنته.