facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




أُمِّي .. لِذكراها الخُلود!


د. يوسف عبدالله الجوارنة
24-12-2020 03:42 PM

وإذْ قيل: فاضَ الحَنَان إلى مَآلِه سَقَطتْ عَبْرةٌ حَرّى، تَبِعَتْها عَبَرات وزَفَرات!

رَبّاه؛ ما يُغني البُكاءُ لِفَقْدِ حبيبٍ آلَ إليك، يُؤمِّل رحمةً منك وعفوًا، ويَشْكو إليك قلَّة وضَعْفًا. رَبّاه؛ ما قيمةٌ يَحْملها المرءُ ويحتفظ بها عند غياب أُمِّه؟ وماذا عَساهُ يفعلُ إذا أَلَمَّت به مُلمَّة، وقد افتقد حضنًا دافئًا يؤول إليه؟ لكنَّها الحياة؛ لا تقفُ بموتِ عزيزٍ، وستنتهي حتمًا إلى ميعادها، والإنسانُ فيها بين راجٍ ومؤمِّلٍ، تَسَعنا رحمتُك ربَّنا ولا تَسَعُنا أَعْمالُنا، فتدخلنا جنَّتك؛ وقد شَمَلْتنا برحمتِك وعفوِك ورضوانِك.

رَبّاه؛ هي أمّي وكفى!
شَقِيتْ بها الأيَّام ولم تَشْقَ بنا، ما ضَعُفت ولا استكانت، ولم تكن نَؤومَ ضُحى، بل نَظَرت إلى غدٍ يُشْرق لها بذورًا يانعات؛ فأَنْبتت أُسْرةً (خمسةً وثلاثًا)، حَمَلتْها كُرهًا ووَضَعتْها كُرهًا، ويومَ أَلْجَأها المخاضُ بهم، لم تكن في جَنَّةٍ بِرَبْوة، ولا حَظِيت بغير مَشْفى، افتقرتْ إليك في بيتٍ بانت سُقوفُه، وتَشَقَّقت أبوابُه، فحاصَرَتْه الرِّياح من كلِّ جانب، فيه مِدْفأة وَقودُها حَطبُ الزَّيتون، وبين يديها قابِلةٌ (داية)؛ امرأةٌ عَصَرها الزَّمن، فخَطَّ في وَجْهها خطوطًا غيَّرتْ زينَتَها، تَقْسو عليها ولا تَرْحمُها، وتَسْتجيبُ المسكينةُ راغمةً إليها، لا تَلْوي على شيءٍ، حتى إذا الوليدُ اسْتَهَلّ، ابتسمتْ فَزَجَرَتْها، وإذا النُّعاسُ غَشَّاها فَأَيْقَظَتْها. رَبّاه؛ أنتَ حفظتَها، وأنت أَطْعَمتَها وسَقَيْتَها، وخَفَّفتَ عنها ثِقل الحَمْل، وأَعَنْتها عند الوَضْع، وأَدْرَرْتَ لها (الضَّرع)، فنَشِطت تَسقي رَضيعَها لبنًا سائغًا، ثُمَّ شَدَدْتها بثوبِ العافية، وأَعْطَيتها قوَّةً بعد ضَعْف، فقامت للحياة من جديد.

هي أُمّي كغيرها من أمَّهات الأمس، فلّاحة في الزَّمن الجميل، حَمَلت مع أبي ثِقْلًا بصمتٍ، لم تأخذ إجازاتِ أُمومةٍ تَمْلأُ فيها قلبَها بولائدها ووِلْدانها؛ فلا يَفْرَغ فؤادُها بِبُعْدِها عنهم، ولكنَّها في أسبوعِها تَدورُ بها عَجَلةُ الحياة؛ فهناك أشغال مؤجَّلة تنتظر لَحْظة قيامِها. ولم تتخرّج في جامعاتِ البناتِ، وما عرفتْ (الموضات) النِّسويَّة، ولا الزَّركشاتِ الحالِيَةَ الحاليَّةَ، حَسْبُها من لباسِها ثوبٌ أسودُ، ونُقْبَة (شَنبر) تغطّي بها نَحْرها وصَدْرها، تَعْلوها طَرْحةٌ (إيشارب) تَعقِله (تَرْبُطه) بعُقدةٍ في الخلف، أو (بشكير) ملوَّنٌ إذا جاد الزّمانُ عليها بطلعةٍ بهيَّةٍ بصُحبةِ زوجِها مُحاقَ الشّهر. ودُهنُ الزّيتون هو (كْريم) تُرطّبُ به يَديْها ووجهَها ورِجلَيْها. وعِطْرُها خاصٌّ عَجَزت عنها ماركاتُ باريس، فوَّاحٌ بأريجِ الشّيح والقيصوم والزَّعتر والمريميَّة والبقدونس والكزبرة والنّعناع...، وما شئتَ من بركات الأرض. وصِياحُ الدّيكِ مبتدؤها، وأذانُ العشاء خَبرُها، و(فُرنُ الطّابون) وزارةٌ سياديَّة لا تدورُ حركةُ البيت إلّا به، وزاويةٌ في البيتِ هي وزارةُ التَّموين، لا يُدانيها أحد، جَمَعتْ فيها مِيرةَ (مونة) الشّتاء والصّيف، مِن: لَبنةٍ مُكوّرةٍ في الزّيت، وجُبنةٍ مزيّنةٍ بالقِزْحة (حبَّة البركة السّوداء)، ومَقدوسِ الباذنجان، وسَمنٍ، وزيتٍ، وزيتونٍ، وزعترٍ، وأقِطٍ (جميد)، وبُرغلٍ، وكشكٍ، وفريكةٍ، وقزحةٍ، وسمسمٍ، وعدسٍ، وحمُّصٍ، وفولٍ، وحُلْبةٍ، ومُجفّفاتِ (الطَّماطم/ البندورة، والبامية، والتّين)، ومُخلّلات (الفقوس، والطَّماطم الخضراء، والباذنجان)، ومُكسّرات (دوّار الشّمس، والقَرْع، واليقطين، والكوسا، والبطيخ)، ومُربَّيات (التِّين، والعنب، والمُشمش، والطّماطم، والقَرع). أمَّا بيضُ المائدةِ فممتدٌّ مَوْصول.

هذه هي أمّي؛ هي الحياةُ الجميلةُ بكلّ تفاصيلها، برخائِها وفضائِها، وزينتِها وكبريائِها؛ رَضيتْ بها من غيرِ حنينٍ، ولا أنينٍ، ولا مَنٍّ، ولا تَحْديق، ولا تَبرّج، ولا تَشدّق، وأنشأتنا فيها -نحنُ الأبناءَ- وكَبِرنا على عينِها: نَروح فيها ونَغْدو بدُعائِها، ونَفْرح لها بقلبِها، ونَضْجر منها ببؤسِها، وتَبْسِم لنا الدُّنيا بِبِرِّها والإحسانِ إليها، وتَعْبِس وتتولّى بِعُقوقها والضَّجرِ منها، ومع كلّ هذه الصّور في الحياة التي نُغرّد لها، لَسْنا مثل أمّنا، ما كنَّا ولن نكون؛ فإنَّها البَلْسم العِطْريّ، والدَّواء الشّافي إذا غابَ الطَّبيب، وفُسْحة الأَمَل إذا ضاقت الدُّنيا، ونَسيمُ الصَّبا جاءت بريّا القَرنفُلِ، وحبّاتُ النَّدى في صباحات الصّيف النَّديَّة، المُغطّاةِ سماؤه بجبالٍ من سحابٍ أبيضَ، والدَّعْوةُ المُسْتجابة لا تُرَدّ، والجَنَّةُ والجُنَّةُ، وهي المُداوي بإذن الله إذا أَنَّ الأنين، وهُي السِّهامُ الصّائبات، والرِّماح النافذات.

(لبيه لبيه يا لغالي... شوفك عن الناس يكفيني/ أفرح لا شفتك اقبالي... بالذات كانَّك تناديني/ أشتاق لك يا هوى بالي... وارتاح لا شافتك عيني ...الخ). طالَما سمعتُ هذه الكلمات وهي تَسمو بروحي وتُحلِّق بها في مَلكوت الأمّ، وتَنْهضُ بجوانِحي وأنَّاتِ قلبِي، لكلِّ روحٍ جميلةٍ، وطلَّةٍ جميلة، وابتسامةٍ ساحرةٍ منكِ لا أقوى عليها يا أمّي. هذه الكلماتُ لَحنُها الجميلُ يُعيد إليَّ ذاتي، ويُذكّرني بك يا أمَّ محمَّدٍ؛ إذْ كنتِ تُنعشينَ وعمّي سالمًا، وزوجَه أمَّ خليلٍ، أرواحَ المُتعبين أيَّام الحَصاد والبيدر، بكلماتٍ جميلة، وألحانٍ كانت تلامسُ شغافَ قلبي، فتجيء كالنَّسمة تَحنو عليَّ، وتُثير إحساسي بجمال الحياةِ النَّابضة حولي، وتُعيدني إلى أيَّامٍ خلَتْ؛ فيها كلُّ شيءٍ جميل، أسمعُ فيها ألحانَ العَصافيرِ والبلابلِ تَشدو فوق الأشجار، وعند جِرانِ الآبار، تُشنّفُ أسماعي بسيمفونيَّاتها الصَّدَّاحة العَذْبة، تَتجاوبُ معها وتَتناغمُ لها أصواتُ شجرِ الصَّنوبَرِ والبلُّوط، إذا تَخَلَّلتها رياحٌ تُثيرُ رَقَصاتِها الآسِرة.

أمّي، إنَّك مِن جُملة الأمّهات اللائي عِشنَ في زمنٍ: ارتفعنَ فيه فوق المَواجع، وتواترنَ فيه على حبّ الفضائل ونَزْعة الصّنائع، وتحلّين بالأخلاق الحميدةِ وفي مقدّمتها الحياءُ والتّواضع، وولَّينَ صَوْبَ الإيثار وابتعدنَ عن الأثرةِ والمَسامع. ألفنا الحياةَ على بَساطتِها في ظلّكِ وتحت جناحكِ، وشَعرنا فيها بدفءِ المشاعرِ وعَبَق الذِّكريات، بعيدًا عن صَلْصلة الجوَّالات وأزيزِ (social media)؛ فقد صَدّعتْ رؤوسَنا، وَشَاخَتْنا قبل أنْ نَشيخ، وأحالتنا جثثًا هامدةً، لا تقوى على الاتّكاء.

غادرتِنا قبلَ ستٍّ بعد ثمانٍ يا أمّي، صَحبَتكِ فيها عفيفةُ؛ بنتٌ بألفِ بنت، وحَنَانٌ مُحلّقُ لا يتوارى، ويَدٌ صَنَاعٌ، وقَمرٌ لا يَغيب- استجبتِ صابرةً لشللٍ نصفيٍّ، أقعدكِ عن حياتك اليوميَّة التي امتدَّت سبعين ونيّفًا، فخلّفتِ حِملًا ثقيلًا تنوءُ به العُصْبةُ من نساءِ اليوم؛ فإنَّ مدرسَتك غيرُ مدارسِهنّ، وبضاعتُكِ غيرُ بضاعتِهنَّ، وإنَّك من جيلٍ فريدٍ غيرُ جيلهنَّ، إلّا ثلَّةً من بقايا إرثكنَّ العظيم، تنسّمنَ الخيريّة فيكنّ، وحَرَصنَ في الوقوف على أعتابكنَّ، يَرتوين من نَبعكنّ الذي لا يَنضُب.

يا الله، يا حيُّ يا قيُّوم، يا رحمنُ يا رحيمُ، يا حنَّانُ يا منَّانُ، يا غفورُ يا ودودُ، نسألك باسمِك الأعظم؛ الذي إذا دُعيتَ به أجبتَ، وإذا سُئلتَ به أعطيتَ، يا مَن رَزقتَ يُونسَ في بطنِ الحوت، ونجَّيتَ موسى من الطَّاغوت، وحفظتَ محمَّدًا بنسيجِ العنكبوت، وحَنوتَ على يُوسفَ في الجُبِّ، ومَنحتَ بعد كِبَرٍ زكريّا، وبيَّضتَ مع الملائكةِ وَجهَ لوطٍ، وأنطقتَ في المهدِ عيسى، وعاتبتَ في ولدِه نوحًا، وفديتَ إسماعيلَ بذِبحٍ عظيمٍ، وملأتَ فؤادَ أمِّ موسى، وبرَّأت أمَّنا من القيلِ عائشةَ، واستمعتَ لخولةَ المُجادِلة، وعاتبتَ يومَ عَبَسَ محمّدا، وجعلتَ خيرَ البريَّة أحمدَ، وصَلَّيتَ عليه وسلَّمتَ وباركتَ- احفظْ أمَّهاتِنا، وارحمهنَّ، وبيِّض وجوهَهنَّ يوم تَبيضُّ الوجوه، واغفر لهنَّ ما قدَّمنَ وما أخَّرنَ، وما أَسْررنَ وما أعلنَّ، واسقهنَّ بيدِ الحبيبِ شَربةً لا يَظمأنّ بعدها أبدًا، واجعل لهنَّ في الفردوسِ الأعلى نُزلًا ومَنازلَ، إنَّك سميع مجيب.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :