facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مدن تسكننا


د. منتهى الطراونة
02-01-2021 03:52 PM

من المدن ما يطبق على قلبك على الرغم من اتساعها ، ومنها ما تفسح له مدّ البصر على الرغم من صغر مساحتها !

ربما تسير في شوارعها مغمض العينين ، ولا تتعثر قدماك ، فالقلب يعرف أين يسير ، ولن يخذلك ، فبين قدميك والطرقات ألفة تجاوزت الحاجة إلى النظر !

فيها فقط يقابلك الناس بابتسامة ، ويستوقفك معظمهم ليسألك عن نفسك قبل عقود ، وليذكّرك بموقف ، وليسألك عن أهلك ، حتى الجد الخامس منهم ، وليشكرك على ما لم تتذكر أنك فعلته !

فيها فقط ؛ يرفض طبيبك أن يأخذ أجرة الكشف عليك لعارض صحي ما ؛ لأنه يعرفك !

فيها فقط ؛ يرفض البائع أن يأخذ ثمن ما ابتعته ، ويبادرك بعبارة ( خلّيه علينا ) ؛ لأنه يعرفك !

وفيها فقط ؛ يبادر أحدهم بدفع حساب ما ابتعت من أشياء ، ويسبقك لذلك دون أن تعلم ؛ لأنه يعرفك !

فيها فقط ؛ تتوقف عند أبواب البيوت تسلم على أهلها ، ويتشبثون بك لمشاركتهم طعامهم ، وقهوتهم ؛ لأنهم يعرفونك !

فيها فقط ؛ يتوقف كل من يقابلك ( بعد وقت طويل لم يرك فيه ) ، مرحباً ؛ ليؤكد لك أنه ما زال يذكرك ؛ حتى وإن تغيرت ملامح وجهك ،
ورسم عليها الزمن خطوطه ، وترك بصماته ؛ لأنه يعرفك !

فيها فقط ؛ تبحث عن ذكرى قديمة ، وعن ياسمينة عتيقة كنت تلقي عليها التحية كل صباح ، وأنت ذاهب إلى عملك !

فيها فقط ؛ تتوقف لتلقي السلام على ذلك التاجر الذي جلس أمام متجره ؛ لأنك تعرف به ، ويعرفك !

تعرف مساجدها ، كنائسها ، ميادينها ، ساحاتها ، وهي تعرفك !

فيها فقط ؛ تعرف تفاصيل المتاجر ، ووجوه أصحابها ، وأين يخبئون بضاعتهم ، ليؤثروا بها بعض معارفهم ، ومنهم أنت !

فيها فقط ؛ تعرف أسماء العائلات ، وسكان البيوت ، وسيرتهم ، وماضيهم ، وحاضرهم ، وهم يعرفون عنك كل شيء !

فيها فقط ؛ تعرف أصحاب البيوت المهجورة والمهدّمة !

فيها فقط ؛ تعرف أصول عائلاتها الشامية والكردية و و ، وتعرف باحات تلك البيوت ؛ البحرة ، وعرائش العنب فيها ، والياسمين !
مدارسها تعرفك ، وأنت تعرف كل زواياها ، ووقع خطاك ما زال يقول ، كنت هنا يوماً ، وسجلاتها تعرف تعرجات خطك ، وذوب عقلك
وقلبك ، وعصارات فكرك ، وما زال صوتك ورجع صداه في كل الردهات !

تجوب مدناً سهل الله لك دخولها ، والعيش فيها ، ومعرفة كل جمالياتها وسحرها ، لكن نفسك لا تهفو لغير مدينتك !

تدخل مطاعمها ، لكن شهيتك لا تعترف بغير مطعم الحلبي العتيق ، وذكرياته ؛ فللحواس ذاكرة !

وتقضي أمسياتك في متنزهاتها وحدائقها ، لكن نفسك لا تتوق لغير حديقة المشير ، والقلعة تطل عليها ، فيتعانق التاريخان ؛ تاريخ حابس ، وتاريخ شهدائها من كل عشائرها ؛ الذين استقرت أجسادهم في واديها السحيق ذات ظلم !

وتاريخ علياء ، واحتراق قلبها ، وإبراهيم الذي وفّى !

وهبّة فتيتها ؛ الذين آمنوا بربهم وبها ، يوم حاول الخوارج اقتحام حصونها !

تدخل منتديات ، ومحافل ، وملتقيات في كل الأماكن التي قادتك ظروفك إليها ، وتسمع لشعراء ، وأدباء ، ومثقفين ، لكن قلبك لا يجد مبتغاه بغير أمسية أدبية في فسحة من مكان وزمان ، أتاحهما لك شعراء الكرك ، ومثقفوها !

سائق الحافلة يعرفك ، عامل الوطن يعرفك ، البائع المتجول يعرفك ، لمبات الشوارع ، وأعمدتها تعرفك ، فطالما استندت عليها لحظة انتظار !

القلعة ، شارعها ، متاحفها ، دهاليزها ، أدراجها ، قاعاتها ، ( سائدها ، وأسدها ) ، وصهيل خيلها ، ووقع سنابكها ، وحداء فرسانها ، ( الكرك يا زينةصبوح عيّت على طلابها

متربعة بين السحاب يغشى النجم مؤابها

بدم النشامى مطيبة ومعطرات ترابها ) !

حتى صلاح الدين ؛ ربما يعرفك !

حاراتها ، أدراجها ، مخابزها ، وجوه المتسولين ، ووجوه من ابتلاهم الله تعرفها ، حتى وجوه العشاق ، ومواعيدهم البريئة أمام ( صخر ) تعرفهم ، وهم يعرفونك !

مقابرها ؛ تعرف من رقد فيها آمناً ساكناً ، وربما تتوقع أين ستكون زاويتك أو ركنك فيها !

تخرج من كل أحزانك ، وتنحاز للحياة من جديد ، فجريان نهر حبها يتدفق في شرايينك ، وقلبك يؤوي كل تفاصيلها !

أنت خارجها مجرد رقم ، وعابر سبيل ، ومجهول الهوية ولو عرفك القليل ، انت خارجها خارج دائرة الدفء ، والضوء ، والأمان ، والسلام مع نفسك ، أنت خارجها قلِق ، غير مستقر ، ولا متوازن ، وتبحث عن أية فرصة ، أومناسبة تعيدك إليها !

هل يعلم كل الذين يدعونني للسكن في العاصمة ؛ لماذا أنهي المكالمة ، أو أغير موضوع الحديث ؟!
يا سادتي :

للمدن أحاسيس مثل البشر ، فهي تحب الأوفياء ، والمخلصين ، وتتأذى من كل العاقين ، والجاحدين ، ومن يدير لها ظهره ، فهل تريدون مني أن أترك شرفة الوجد التي أطلّ منها على ذاتي ، ماضيّ ، وحاضري ، ذكرياتي ، وأهلي ، أحبتي ، أصدقائي ، وحتى أعدائي ، ولا أجد روحي غير فيها ؟!

هل تريدون مني أن أجرح إحساس الكرك ، وأنا عاشقتها ، وروحي تعلقت بروحها ، وواثقة أنها تبادلني العشق ذاته ؟!

فالقلوب لا تكذب أبداً !





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :