facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حديثٌ وذكرٌ (سليمان الرّحيليّ)


د. يوسف عبدالله الجوارنة
28-04-2021 10:38 AM

في إحدى رُدهاتِ "فندقِ الحياة" في عَمَّان، كنتُ من بينِ عشراتِ المُنتدَبينَ للتَّعاقدِ مع جامعةِ طيبةَ بالمدينة المنوّرة، للعام الجامعيّ 32/ 1433هـ، على ساكنِها أفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التسليم.

جلستُ أنتظرُ مُقابلتي اللجانَ المُتعاقِدة، وقُبالتي رجلٌ يربو على السِّتين، في سَمْته وقارٌ، وتَعلوه سُمرةٌ بدويَّة دالّة، أنظرُ إليه ويَنظرُ إليّ، وكأنّي به يناديني، ثمَّ أشارَ إليَّ: أنْ تعالَ واجلسْ هنا. جلستُ بين يديه ودفعتُ بأوراقٍ من بينِها سيرتي الذاتيّة، فراحَ يُقلّب فيها ويَنظر، ثمَّ قال: تعاقدتُ معك، اذهب إلى ذاكَ الشَّخص يُحرِّرْ لك عقدًا.

قلتُ: أنا أتعاقدُ معكم في مركز الجامعة بالمدينة لا الفروع.

- وأنا أريدُك في المركَز لا الفروع.

- لكنّي سمعتُ أنّكم تَدفعون ببعضِ المتعاقدينَ إلى أماكنَ غيرِ متَّفقٍ عليها؟!

- لن يحصلَ ما دمتُ مسؤولًا؛ اذهبْ وتوكَّل على الله.

لم أتحدّثْ معه عن تفصيلاتِ "الرّاتب"، ظنًّا منّي أنّ للجامعةِ "كادرًا" تُجدوَلُ على أساسِه الرَّواتب، وعلمتُ فيما بعد أنّ للمُفاصَلة ضرورةً في رَفعِ الرَّواتب وخَفضها؛ فإنَّ مَن يحاورُ ويفاصلُ، يُحصِّل "علاواتٍ استثنائيّة" غيرَ مُجدولة، ومَن تَغيبُ عنه يعودُ بخفَّي حنين، إذْ عدتُ بهما إلى مدينتي "إربد" فرِحًا مسرورًا، أنّني ظفرتُ بما كنتُ أطمحُ إليه؛ أنْ أكونَ في "مكّة المكرَّمة" أو "المدينة المنوَّرة" يومًا.

ويومَ وصلتُ المدينة، وكرَّمتنا الجامعةُ بإنزالنا أحدَ الفنادقِ القريبةِ من الحَرمِ لمدَّة عشرة أيام، فوجئتُ أنَّ من المتعاقدين في أقسامِ التاريخِ والدّراساتِ الإسلاميَّة، مَن تَعلو رواتبُهم راتبي، وهم دوني في الخبرة، فضلًا عن أنَّ اللغةَ العربيَّة، والشَّريعةَ الإسلاميَّة، والعلومَ الاجتماعيَّة، سواءٌ في النُّدرة، بل قد تزيدُ اللغةُ عليها وتَعلوها، فأخذتني الحَيرة، وعَظَّمت الأمر، ووليتُ وجهي شطرَ الدُّكتور سليمان بن ضفيدع الرّحيلي.

وفي كليّةِ الآدابِ والعلومِ الإنسانيّة، استأذنتُ في الدّخول على عميدِها الرّحيلي، فأذنوا بكلّ سرور، واستقبلني في مكتبه بكلِّ أريحيَّةٍ ولُطفٍ وتَواضعٍ، قلَّ نظيرُه عند أمثالِه مِمَّن يتقلّدون مَنصبَه، وحيّاني وبيّاني وأكرمني، وسألَ عن حالي في المدينة، وفتحَ لي آفاقًا جميلةً في جوارِ الحبيبِ محمّدٍ صلَّى الله عليه وسلّم.

كدتُ للوهلةِ أنْ ألتزمَ الصّمت، وأكتفي من هذا اللقاءِ بالسَّلام عليه، وأنَّنا وصلنا، وسوفَ تُسندُ إلينا جداولنا ونبدأُ عمليَّة التَّدريس. وقد لحظَ ذلك في سكوني، وتَراءى له في وجهي، ما دفعني إلى الجرأة لأتحدَّث، فقد أغراني تواضعُ العميد أنْ أبثَّ إليه حاجتي، بل مَظْلمتي إنْ صحَّ التَّعبير، فقلت: نحنُ على أحسنِ ما نَكون، وفي المدينةِ نسماتٌ ونفحاتٌ طالَ اشتياقنا إليها، وحدّثتنا بها أنفسُنا، لكنّ أمرًا ما يحيّرني!

- (بادرني) ما هو؟

- سعادة العميد، ما علمتُ أنَّ المرءَ يُظلمُ في مدينةِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم؟

- (دُهش من السُّؤال) حاشا للهِ أنْ يُظلم امرؤٌ في المدينة!

- كيف، وأنا أوَّلُ "المَظاليم" فيها؟!

- (استعظمَ الأمرَ، وجلَّله سوادٌ فوق سُمرته البدويَّة اليانعة)، فأردفتُ: وإنْ كان ثَمَّة مَظلمةٌ ففي رقبتِك، واعذرني سعادةَ العميدِ عن إفصاحي الذي قد يخلو من الدّبلوماسيَّة المطلوبة في تحصيلِ الحقوق.

- (استعاذَ بالله، وهزّته الكلمة)، وقال: ما بالُك يا رجل؟ هل من شيء؟

- كم هزّنا الشّوقُ إلى المدينة! وأَبَيتُ إلَّا أنْ أصحبَ زوجي وأولادي إليها، ومنذ اللحظةِ التي رأينا فيها مناراتِ المسجدِ النّبويِّ مِن علٍ، هَبَطت أفئدتُنا إلى هذه البقاعِ الطَّاهرة، بيد أنّي أشعرُ الآنَ بأنّ "الراتبَ" الذي صُرف لي في عَمَّان، وعدمَ مَنحي "علاوة استثنائية"، كما يتمتَّع بها غيري من المُتعاقدين الجُددِ في تَخصُّصاتٍ إنسانيَّة، يُثيرُ في نفسي حُزنًا وألمًا أنّ في التَّعاقد معاييرَ مُزدوجة، وأنّ هذا ظلمٌ أبعدُ ما تكونُ عنه مدينةُ الحبيب.

كان الدكتور يَستمعُ إليّ بصمتٍ مُطبق، ثمَّ هزّ رأسَه وابتسم وقال:

- كنتُ أظنُّ الأمرَ أكبرَ من هذا!

- ومثلُ هذا يَصْغر؟

- يا رجلُ، أنت في المدينة، وكفى! ولا تُحسب فيها الأمورُ حساباتٍ ماديّة، اذهبْ الآنَ إلى مَقامك وتوضّأ، ثمَّ اصحبْ عائلتَك إلى قُباءٍ وصلُّوا فيه ركعتين، هما خيرٌ ممَّا تفكّر فيه.

- لكنّ غيري ممّن يتمتّع بالعلاوة سيفعل ما أفعله!

- قال: ثمَّ تذهبون إلى الرَّوضة الشَّريفة وتُصلُّون فيها ركعتين، هما خيرٌ من الدّنيا وما فيها!

- وذاكَ سوف يَسْبقني إليها ويُصلّي أربعَ رَكَعات، ونفسُه تدعوه لركعتينِ أُخْريين، وأنا أفكر في الرّكعتَينِ اليتيمتَينِ بالرَّاتب والعائلة والمدارس وغيرها.

- اسمع، مكثتُ في الرّياضِ عشرين سنةً، لم أُحصِّل فيها ما حَصَّلته في المدينة في سنواتٍ قلائل؛ في المدينةِ بركةٌ في المال، وبركةٌ في الوقت، وسوف تَنْسى هذا الذي تَطلبه بعد أنْ تَركنَ في مقامك وخروجك من الفندق.

- ما تَقوله سعادة الدُّكتور أعيه تمامًا، وفي المدينةِ سوف نجدُ مُراغمًا كثيرًا وسعة، وللمدينة تَخبّ المطايا شوقًا وحبًّا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلّم، غير أنّ مَظلمتي بين يديك وستبقى، وما أطلبُه أنْ تُساويَني بغيري ممَّن تعاقدتَ في عمّان، وأنا أستأذن بالانصراف.
في هذه اللحظة شعرتُ أنّ الدُّكتور الرّحيلي حَرَّك ساكنًا، وقال:

- انتظر! وهل ما قلتَه شرطٌ وقيد؟

- أنا لا أشرط ولا أقيِّد، إنّما أريد الإنصافَ، والأمرُ إليك فانظر ماذا ترى؟!

- اكتب إليَّ طلبًا بصرفِ علاوةٍ استثنائية، وأَرْفقْ طيَّه سيرتك الذّاتية، والله يكتبُ لك الخير، وسترى الخير في المدينةِ، "والمدينةُ خير لهم لو كانوا يعلمون".

رحم الله الدّكتور سليمان الرّحيليّ، وغفر له، وتقبّله في الصّالحين، روحٌ طيّبة في طيبة الطيّبة، فقد غادرنا من الفانيةِ إلى الباقية، في رمضان 1435هـ.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :