facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




شهود محبتي .. (رسالة في الطريق)


د. يوسف عبدالله الجوارنة
02-04-2022 02:14 PM

ما أعذبَ كلامَها إذْ قالت لأبيها: يا أبتِ، كُنتُ أَقرأ اللّيلة قولَه تعالى: "رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخِرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النّار"، فماذا تَكُون حسنةُ الدّنيا؟

صَمتَ الوالدُ وأَطْرق، ثُمّ قالَ بلسانِ المُؤْمنِ الحليم: يا ابْنَتِي، لا أَرَاها للرّجلِ إلَّا الزَّوجةَ الصّالحة، ولا أَرَاها للمرأةِ إلّا الزَّوجَ الصّالِح.

بَدْءٌ طيّبٌ أنْ يكونَ المرءُ في ضيافةِ ابنةِ سعيد، الفتاةِ التي كانت مِن خِيار النِّساء، طَلَبَتْها الخِلافةُ بِلمَعانِها وبريقِها فَمَا انْقَادتْ إليها، ولا رَضِيتْ بِها؛ لأَنّها أَرادتْ لنفسِها زَواجًا من طرازٍ آخر، وليسَ عَجَبًا؛ فهي ابنةُ عالمِ المدينةِ وشيخِ العُلماء، تَربَّت على يَدَيْه، وصُنعتْ على عَينِه، فأَرادها -بعد رغبتِها- زَوجًا لتلميذٍ فقيرٍ زاهدٍ، إيمانًا منه بِقُدُسيّة هذا الزّواج، متأسّيًا بقولِه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: "إذا أَتَاكُم مَن تَرضونَ أَمانتَه ودِينَه فَزَوِّجُوه، إِلَّا تَفعلوه تَكُن فِتنةٌ في الأَرْضِ وفَسادٌ عَريضٌ".

ولعلّ هذا البدءَ يُوافقُ مناسبةً عَطِرةً لِعُصفورَةٍ طالَ بها الحَنينُ ووجعُ اللقاءِ في عُشٍّ مَكينٍ، يَبُثُّ فيه الفتى كلماتٍ ومعاني إلى وَحْي ظَبْيةٍ سَعِدتْ وأَسْعدتْ، ونَضِجتْ وأنْضَجتْ، تَكونُ سمتًا وطريقًا، تقفُ بها مع فارسِ أحلامِها على أَرضٍ صُلْبة غيرِ هَشّةٍ، تُنْبت حياةً يانعةً أَصْلُها ثابتٌ وفَرْعُها في السّماء، ذلك أنَّه أَحسَّ وهو يقفُ على عتباتِ دارِها، أنّ إِشعاعًا إلى قَلبِه نَفَذ، ونورًا إلى فؤاده بَرَق، فوجدَ نَفْسَه يَتوسَّمُ بها خيرًا وَفيرًا؛ إِذْ قرأَ في جَبينِها علاماتِ الفطْنةِ والعفَّةِ والحَياء، وحاكى فيها مَنْطقَ الفكرِ ورهافةَ الحِسّ، وتَنبّأ في شُعورِها بصائرَ وذخائرَ، والتمسَ إلى جِوارِها مَودّةً وإلفًا، وسعادةً وأُنسًا، كأنّه راحَ يُردّدُ مع ذلك العاشقِ الوَلِه: واللهِ إِنِّي لَأَرَى الشَّمسَ على حيطانِها، أَجملَ منها على حيطانِ جيرانِها.

هذا ما حَدَّثته به نفسُه، وأَوْحى به إليه عقلُه؛ أَنَّه بَحثَ فثقفَ، واستَبْصرَ فَأَخلدَ؛ وباتَ يُناديها: إلى الّتي رَأتْ أنّه هو، وَاسْتيقظتْ فَسَألتْ أُمَّها: ما اسمُه؟ وما رَسمُه؟ ما شأنُه؟ وما خَطبُه؟ ما سُؤالُه؟ وما نَوالُه؟ أقول: إنَّ اختيارَ المرءِ قطعةٌ مِن عَقْله، تَدُلُّ على تَخلُّفه أو فَضْله.
فها أَنْتِ الآنَ مُمْتَحَنَةٌ فيه تَخَلّفًا أو فَضْلًا، إِقْبالًا أَوْ إِدْبارًا، مُهَرْولةً إِليه أو راغبةً عنه، غيرَ أَنَّ فيكِ دليلَ عاقلٍ، وإيمانًا صادقًا، يُسْلمُكِ إلى خُلُودٍ ونُجُودٍ، فتَكُونين فتاةً نَجُودًا (عاقلةً نبيلة)؛ تَأْخُذُ بالأَسْباب، وتُؤْمن بالأَقْدار.

وأملُه أنّ اسْمَكِ على مُسَمّاكِ، وخَيْرَك في مُحَيّاك، وأنّ لكِ أَنْ تَكُوني "رَوْضَةَ الحُسْن، وضَرَّةَ الشَّمس، وبَدْرَ الأَرْض"، وأَنَّ "مَطْلِعَ الشّمسِ مِن وَجْهكِ، ونَبْتَ الـدُّرِّ مِن فَمِك، ومَلْقَطَ الوَرْدِ من خَدِّك، ومَنْبَعَ السِّحْرِ مِن طَرْفِك، ومَبَادي اللّيلِ مِنْ شَعْرِك، ومَغْرِسَ الغُصْن مِن قَدِّكِ"، وهذا يكونُ بين العاشقينَ حتمًا- لقاءَ أريحيَّة تُؤَدّينها صَوْب ذاك الخُلود الذي تَبْغين، تُحَقّقين فيه سَبْقًا إليكِ؛ فَأَنْت مَنْ تَطْلبين النّوافل، وتَرْنين إلى الفضائل، لِتَكُوني بعدها فتاةً أَسْلمَها القَدَرُ إلى غايةٍ، وارْتَضَاها القَادِرُ إِلى بدايةٍ ونِهَاية، كَأَنّك تُنَاجين رَبّك مُناجاةَ أَعْرابيّةٍ: رَبّ ما أَضْيقَ الطّريقَ على مَن لَم تَكنْ دَليلَه، وأَوحشَها على مَن لَم تَكنْ أَنيسَه.

ها أنتِ الآنَ تَؤُولين معه إِلى رُكْنٍ رَكين، وتَقْترنينَ به زوجًا عشيرًا، وتُخَلّفين وراءكِ أمًّا رَؤُومًا، وإخوانًا أصدقاءَ صَحِبتِهم– فكيفَ أَنْتِ مَع هؤُلاءِ وهؤُلاءِ تُدْخِلين السّرور والحُبُور؟ إنّها أَمَانةٌ والإِخْفَاقُ بها ندامةٌ، بل هو الامتحانُ الذي يُكرمُ فيه المرءُ أو يُهان؛ فَمُحالٌ أنْ تَخْلدي إلى نعيمٍ وقد أَدرتِ ظهركِ لأهلكِ وذويكِ، وصَعَّرتِ خَدّكِ لأمُّكِ وأبيكِ، وانصرفتِ عن أختكِ وأخيكِ، فذلك يَحْقِن صُدُورَهم تُجاهكِ، وكانوا قد رَأَوْا فيكِ مِثالًا يُحْتذى، وصديقًا به يُقتدى.

أَيْ ظَبية، رَحمَ اللهُ امرَءًا عَرفَ زمانَه، وخَاطبَ أَهْلَه بمَا يَعْرفون، ولعلّ حُسنَ مُعاملتِك لأَهلِ زَوجكِ، ومثاليَّةَ الجِوَار في رُبوعِهم وحِماهم، يَجْعلانِك في مَكانٍ عَلِـيٍّ، يَعْرفون بِهِما قَدْرَك، فَيَتطلَّعون إليكِ، ويُقْبلون عليكِ، تُؤْوينَ مَلْهوفًا، وتُعينينَ مَكْروبًا، وتُساعدينَ في نَوَائِبِ الدّهْرِ؛ فَأَكْبِري -يا ذاتَ خَفَرٍ وحَياءٍ- أَبَاه وأَعْلي قَدْرَه، واجْعَليه مِثَالاً لا يُبَارَى، ولْتَكُن أُمُّـه عِنْدكِ سَيّـدَةَ النِّـساءِ، وعَظيمةَ الأَمْثالِ لا تُجارَى، وأَخَوَاتُه إنّـما هنَّ –كما أَنْتِ- عَوانٍ، يَكْبُرن بعين الرِّعايةِ والحَنان، ويَشْخُصْن بِغَضّ الطَّرْفِ والابْتِذال، لأنّه لَهُنّ أَخو الحَرائرِ، أَمَّـلنَ فيه فَرَجونَ، وتَطلّـعنَ إليه فما خُذلنَ، فَأَكْبَرْنَه إِكْبارًا، وأَعْظمنَه إِجْلالًا، وهُنَّ يَغبطنَكِ بل يَحْسُدنَكِ فيه، فَكُوني العادِلةَ المَحْسودةَ، ولا تَكُوني العاذِلةَ المَنْبوذةَ. وأَمّـا إِخْوانُه، فَإِنَّـهم يَرَوْنَه سِطَةً، كانَ لَهُم في العُزُوبَةِ مِثالاً، فَهَلاّ كُنْتِ الظَّبْيَةَ المِثَال؛ فيَفوزَ من خِلالكِ ويَحُوز؟‍‍‍‍

وَاعْلمي أَنّ القلوبَ تَصْدأ كَمَا يَصْدأ الحديدُ، ولا يَتمّ جِلاؤُها إلَّا بابتغَاءِ طَرائفِ الحِكْمة، وليس بَعْدَ القُرْآنِ حِكْمَةٌ وفَصْلُ خِطَابٍ، بَل هو مَنْهَجٌ للعالَمينَ وشريعةُ حَياةٍ، ودَواءٌ لكلِّ دَاءٍ؛ ذَكَر أَحدُ العَارفينَ بالله أَنّ دَواءَ القُلوبِ خَمسةٌ: "قراءَةُ القُرآن بالتّدبُّر، وخَلاءُ البَطْن، وقيامُ اللّيل، والتَّضرُّعُ عندَ السَّحَر، ومُجَالسةُ الصّالحين"؛ فليكن كِتابُ اللهِ لكما هَادِيًا ومُرْشدًا، وسُنَّـةُ مُحمّدٍ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- سامرًا ومُنْقذًا، وسِيْرَةُ الصَّحبِ الأَخيارِ دَليلاً ومُنْجيًا، وذِكرُ النّارِ خوفًا وإدبارا، ونعيمُ الجَنَّةِ رجاءً وإقبالا.

والنّاسُ اليومَ أَبْعدُ ما يَكُونون عن الله، حَتّى صار الدِّينُ يُمارَسُ طُقوسًا وشَعَائرَ، وغابَ –وإنْ شئتِ غُيِّبَ- في حياتهم مَنهجَ حَياة، فلمَّا "كانَ كُلُّ شَيءٍ في عَصرنا بيدِ الدَّولة، من التّوجيهِ إِلَى التّعليمِ، وإِلى الصِّحافةِ، وإِلى الإِذاعَةِ والتّلفزيون، وإِلى التَّخْطيطِ السّياسيِّ والاقتصاديّ، والدّاخليِّ والخارجيّ، وأُمورِ الحَرْبِ والسِّلْم– فَقد أَصبحَ دُولابُ الحياةِ كُلِّها يَدورُ في غَفلةٍ عن اللهِ، وعن دينِ اللهِ وأَحكامِهِ وشريعتِهِ"، على حَدِّ تعبيرِ الأستاذِ سعيد حَوَّى. فَلا يكنْ شعَارُكِ:
إِنّما الدُّنيا طعامٌ وشرابٌ ومنامُ
فإِذا فاتكَ هذا فعلى الدُّنيا السَّلامُ

بل لِيعذُبْ لِسَانُكِ بِـ:
تَهونُ علينا في المعالي نُفوسُنا
ومَن يَخْطِب الحَسناءَ لَمْ يغله المَهْرُ

إنّها الدّنيا، وأَيّةُ دنيا؟ مِن الدَّناءةِ جاءتْ، وإلى الرَّذائلِ ساقتْ، فهي "مَلعونةٌ مَلعونٌ ما فيها إلَّا ذِكْرَ الله وما وَالاه، أَوْ عالِمًا ومُتعلّمًا". لذلك، فإنَّ "مَن لَهَجَ قَلبُه بِحبِّ الدُّنيا، الْتاطَ منها بثلاثٍ: هَمٍّ لا يَبرحُه، وحِرْصٍ لا يَترُكه، وأَمَلٍ لا يُدركُه"، قاله الإمامُ عليٌّ كرّمَ اللهُ وجهَه، وصَدقَ إذْ قال.

فلا يَكُن وَلاؤُك لهذه الدّنيا تُصيبينَ منها عَرَضًا رخيصًا، ولا لعُجبٍ مِن نفسكِ تُكابرين به، ولا لـِ (موضة) مُزَرْكشةٍ تَزْهين بها، ولا لمعلّمةٍ سافرةٍ تُقلّدينها، ولا لأَناقةٍ باليةٍ تَلْهثين وَراءَها. إنّها مَثالبُ أَوْلى بكِ أنْ تَأْنفي منها، وتَرْفضي سياقَها، لأنّها تَسوقُ إِلَى مُستنقعٍ أَنتِ بِمَعزلٍ عنه، وجحيمٍ أَنْتِ بِمَنْأًى عن لَظاها.

ما رأيتُ للمرأةِ جُنونًا –وإنْ شئتِ سُقوطًا- أنْ تكونَ لغيرِ ثوبِها، وما أَشدَّ صَفاقةً أَنْ تُرى لغيرِ طُهْرها! وما أَقبحَ أنْ تُحَقِّر حالَها بعدما أَعْلى شأنَهَا ربُّها! فما دَخَلَ الحياءُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، وما خَلا مِن شَيءٍ إلاّ شَانَهُ. لكن، لَمَّا خَرَجتِ النّساءُ عن طَوْرِ الحَيَاء، وشَبَبْنَ عن الطَّوْقِ، انْسلخنَ مِن ثوْبِ الإيمانِ الذي مُكِّنَّ به، ومِن عَباءةِ التّقوى التي جُمِّلْنَ بها، فَطمعَ بهنّ ذئابُ البَشر، وراحَ يُلاحقهنَّ كلُّ متردّيةٍ في العِشقِ، وكلُّ نَطيحةٍ زَلِقَ خطأً في دفاترِ المُحبّين.

إنّ المرأةَ قد تُزوَّجُ لِجمالِها، وقد تُزوَّجُ لِمالِها، لكنَّ جَمالَها قد يُرْديها، ومالُها قد يُطْغيها، وإِنْ كانَ لذلك كبيرُ أَثَرٍ في نفسِ المَرْء، إذا ما عُدَّ أَمرًا ثانويًّا في سياق الدِّين والأخلاق؛ فَلَرُبَّ امرأةٍ خَرْقاءُ ذاتُ دِيْنٍ عند الله أفضلُ، لأنّها تَفْخرُ بِجمالِها المعنويِّ الأُخْرويّ، جَمالِ الخُلُقِ والعقلِ والدِّين. أمَّا المُتفانيةُ بِجمالِها الحسّيِّ المَكْشوف، فإنّها تُهيّئ نفسها -أحيانًا- لِصغائرِ الأُمورِ وسَفْسافِها، وقد لا يَروقُ لها -غالبًا- أنْ تكونَ من أهلِ البصيرةِ، وبُعْد النَّظَرٍ، ورَبَاطةِ الجَأْشٍ؛ لأنَّها مَعنيَّةٌ بِجمالِها، وغَنِيتْ به عن كُلّ شَيْءٍ سواها. إِنّها فلسفةٌ جاءَ بِها الدِّين، وحَرَّرَ النُّفوسَ بناءً عليها؛ فلو "أَنّي –على حدّ الرّافعيّ في "وَحْيه"- سُئلتُ أنْ أُجملَ فلسفةَ الدِّين الإِسْلاميِّ كُلَّها في لَفْظين لَقلتُ: إنّها ثباتُ الأَخلاق، ولو سُئلَ أَكبرُ فلاسفةِ الدُّنيا أنْ يُوجِزَ علاجَ الإِنسانيّةِ كُلِّها في حَرْفين، لَمَا زاد على القول: إنَّه ثباتُ الأخلاقِ، ولو اجتمعَ كُلُّ عُلماءِ أُوروبةَ لِيَدْرسوا المَدنيَّةَ الأوروبيَّةَ ويَحْصُروا ما يُعْوِزها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاقِ".

وبناءً على هذه المَعاني السّامية، فإنّه يَحْسنُ بكِ –ظبيةَ حِماه- أنْ تكونَ لكِ طريقةٌ مُثلى في علاقتِك بالآخرين، تَنأيْنَ بِها عن الأَثرةِ والحقدِ والضَّغينةِ والحَسَد، وتَقومِينَ معلِّمةً فاضلةً، ومُربّيةً كريمةً، تُواجهينَ المَصاعبَ بأريحيّةٍ وطَلاقةِ بِشْرٍ، وسَلامةِ طَويَّةٍ، وطُولِ تَفْكير، وهو أُسلوبٌ ما اعتاده النّاسُ ولا يَعْتادونه، ولا يَسْلكُه إلّا الكُبراءُ العالِمون منهم.

لذلك، فإنّهم قد لا يَفْهمون هذا الأُسْلوب لأَوّل وَهْلة، فَتكونينَ عندئِذٍ مُحيَّرةً: أَإلى قاموسِ حياتِهم تُساقينَ وتُحاطين، أَمْ إليكِ يسارعون ويترقَّبون؟ "فلا يَضيرُك سَبٌّ ولا ذَمٌّ، إنّما يَضيرُكِ -على حدِّ الفيلسوف الصّيني كونفوشيوس- أنْ تُفكّري فيهما". وقد قيل، وما أبلغَ ما قيلَ: "مَن فَقدَ البَصرَ لم يَفقدْ شيئًا، ومَن فَقدَ البصيرةَ فَقدَ كُلَّ شيءٍ"!

من هنا، ما كانت الحِكمةُ، ولا نَبَتَ الحُكماءُ إلَّا وقد عَرَكَتهمُ الحياةُ، فكانوا نجومًا ساطعاتٍ في حياةِ النّاس؛ لا تَحْلو بغيرِهم، ولا يَصْلحونَ إلّا بهم، ولا يَصْدرون إلّا عنهم، وقد قالها الأفوهُ الأوديُّ، حكيمُ العربِ في الجاهليَّة، كلمةً باقيةً في داليَّته الشَّهيرة:
لا يَصلحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لَـهمْ
ولا سَراةَ إِذا جُهّالُهمْ سادوا
تُلفى الأُمورُ بِأَهلِ الرُّشدِ ما صَلَحتْ
فإِنْ تَولَّوا فَبالأَشرارِ تَنقادُ
إذا تَولَّى سَراةُ القومِ أمرَهُمُ
نَما على ذاك أمرُ القومِ فازدادوا

ويَحْسنُ بكِ أنْ تُولّي وَجهكِ شَطرَ طَريقتِهمُ المُثلى غيرَ زاهدةٍ فيها، تُثيرُ فيكِ نَسماتٍ وإشراقاتٍ، وهي ميدانٌ رَحبٌ، وطريقٌ لاحبةٌ، لكلِّ مَن قرأ فيها وَوَعى، وحفظَ وتأمَّل، وصابرَ ورابطَ؛ فإنَّها تَقُود إلى بناءِ شَخْصيّة العِلْمِ ونَمُوذَج الفَضِيلة.

أَذْكُر هنا قصَّةَ الأَعرابيّةِ النّاضجةِ الفَطينة، كيف أَخْرَجَتْها مَعارفُها مِن مَزْلق عَرَضَ لها؛ إذْ مَرَّت يَوْمًا بقوم من بَنِي نُمَيْرٍ (وهم قومٌ هَجَاهم الشّاعر جريرٌ)، فَأَحَدُّوا النّظَرَ إليها، فَقَالَ منهم قائِلٌ: واللهِ إنّها لَرَشْحاء (كثيرة العَرَق)، فقالت: يا بَنيْ نُمَيرٍ، والله ما امتثلتُم فِيَّ واحدةً من اثنتينِ: لا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: "قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِم"، ولا قَوْلَ الشّاعر:
فَغُضِّ الطَّرْفَ إنّكَ مِنْ نُمَيرٍ
فَلا كَعبًا بَلَغْتَ ولا كِلابَا
فكان -كما تَلْحظين- جوابُها مُخْرسًا، وخطابُها مُبْهتًا، وأَنْقَذَت نفسَها من لَمَزاتِ القَوم وغَمَزاتِهم، وعَرفت بثاقبِ بَصرِها مِن أَينَ تُؤكلُ الكَتِف؟

ثُمَّ إنّ دُعاةَ السّوءِ والإباحيّةِ ما تَرَكوا المرأةَ ولن يَتْركُوها وشأنَهَا، مَصونةً بعيدةً عن هَيْجةِ التّحَرُّر والانعتاق، فهم لا يُؤْمنون بالأخلاقِ الصّادقةِ للمرأةِ، لأنّها إِنّما وُجِدَت لِلْمُتْعة والشَّهْوة حَسْب، أمّا أنْ تَكُون مُهَذّبة فاضلةً... فلا!! وقد عَرفَ اليهودُ أنّ هذا السّلاحَ (سلاحَ المرأةِ)، سلاحٌ فتّاكٌ لتدمير البشريّة، عن طَريق هَدمِ الأَخلاقِ والعاداتِ والتّقاليد؛ فالمرأةُ عندهم تُجسّدُ أَكبرَ فتنةٍ يَحْرقون بها البَشر، ويُخْربون العُمْران، فهذه وسائلُهم، وتلك بروتوكولاتُهم، "يُمارسون هذه الحِرفةَ –على حدّ مالك بن نبيٍّ- حِرفةَ تَخْريبِ الأَخْلاق عن عَمْدٍ وتَصْميم، ولذلك فهم يُسَيْطرون على جَميع أَدَواتِ تَعْفينِ الأَخْلاقِ في العالم: السِّينما، والمسرحِ، والتّلفازِ، والصِّحافةِ، ودُورِ النَّشرِ، ودُورِ تَصميمِ الأزياءِ، ومحلاّت الجِنْس".

فأنتِ يا مَن:
سألَتْـني في حِمانَـا ظَبْيةْ
أتُحبُّ العشْقَ في عينِ صَبيَّةْ؟
قُلْتُ: لا أَعشقُ صَدرًا ناعسًا
وخُـدودًا وشِفاهًا قِـرْمِزيَّةْ
إِنَّـما أَعشقُ صَدرًا عامـرًا
يَحملُ الموت ويَزهو بالمَنيَّةْ
أَدْركتْ سِـرِّي وقالت ظَبْيتي:
أَنتَ لا تَعشقُ غيرَ البُندقِيَّةْ

وأنتِ يا مَن:
لـي في مَحبّتِكمْ شُهودٌ أَربَعٌ
وشُهـودُ كُلِّ قَضيَّةٍ اثْنَـانِ
خَفَقانُ قَلبي، واضْطِرابُ جَوانحي
ونُحولُ جِسْمي، وانعقادُ لساني

أَنتِ الرَّجاءُ في حياةٍ طويلةٍ، أَنتِ أَنتِ الأملُ والمغْنَم، وأَنتِ أَنتِ الشِّفاء والبَلْسَم، ومنكِ منكِ الشَّهْد والرُّضاب.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :