شرح حديث (خرجت لأخبركم بليلة القدر)
18-01-2023 10:58 AM
عمون - شرح حديث (خرجت لأخبركم بليلة القدر)
النص الكامل للحديث وشرحه الإجمالي
أخبر عبادة بن الصامت عن قصة حدثت بين الرسول وصحابته الكرام، قال: (خَرَجَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ، وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، والسَّابِعَةِ، والخَامِسَةِ).
الشرح الإجمالي للحديث الشريف
أوحِي إلى الرسول الكريم بموعد ليلة القدر الذي كان يجهله، فأسرع ليبشر الصحابة الكرام بموعدها الذي أُوحيَ إليه به؛ إشفاقاً عليهم؛ لكثرة اجتهادهم في تحري ليلة القدر، وحين خرج إليهم سمع رجلين من الصحابة يتخاصمان فيما بينهما، فأُنسي الرسول الموعد الدقيق لها، وأخبرهم بموعدها التقريبي.
شرح الحديث
فيما سيأتي شرح لمعاني المفردات والتراكيب الواردة في هذا الحديث الشريف:
(فَتَلَاحَى رَجُلَانِ)
وقعت ملاحاة أي: مخاصمة ومنازعة ومشاتمة فيما بينهما، وزعمت بعض الكتب أنهما كل من ابن أبي حدرد وكعب بن مالك -رضي الله عنهما، بسبب ورود قصة أخرى في تقاضيهما بالدَّين، لكن يبدو بأنَّ تلك القصة تختلف عن هذه، لعدم وجود دليل على تلك القصة، رغم اختلاف طرق هذا الحديث وكثرتها.
(مِنَ المُسْلِمِينَ)
دليل لأهل السنة والجماعة على أنَّ الكبائر -كالمخاصمة والمشاتمة بين الطرفين- لا تكفِّر أيَّاً منهم، ولا تخرِج طرفي الخصام والسباب مِن مسمى الإسلام.
(فَرُفِعَتْ)
رُفِع تحديد موعدها الدقيق -في أية ليلة من ليالي رمضان بالضبط-؛ وذلك بسبب التلاحي والتنازع فيما بين الصحابيين الجليلين، ولا يمكن أن يُراد رفع عين ليلة القدر -كما زعم بعض الشيعة- وإنما أراد رفع بيان وقتها؛ بدليل أنه أمر الصحابة الكرام بالتماسها.
(عَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ)
تمنى الرسول الكريم أن يكون في إنسائه لموعدها الدقيق خيرًا؛ لأنَّ ذلك يقتضي إبهامَ الموعد، وهذا الإبهام لموعدها أدْعى إلى استمرار الصحابة -ومَن بعدَهم- في قيام العشر؛ فصار هذا الإبهام سببًا لشدةِ الاجتهادِ وكثرتِه -للصحابة ولِمَن بعدهم-، والحمد لله على نعمه التي يدبرها بلطفه الخفي.
(فَالْتَمِسُوهَا)
أي فاطلبوا ليلة القدر، واجتهدوا في تلمُّس أجر إحيائها بالعمل الصالح.
(في التَّاسِعَةِ، والسَّابِعَةِ، والخَامِسَةِ)
اختلف العلماء هل المقصود بهن البواقي من العشر الأواخر، أم التي مضت من العشر الأواخر؟، وثمرة هذا الخلاف أنَّ ليلة العشرين -الزوجية- قد تكون من مظان ليلة القدر، إن كان الشهر (29) يوماً، وكان الحديث يقصد البواقي من العشر الأواخر لرمضان.
ما يستفاد من الحديث
يستفاد من هذا الحديث الشريف عدد من الدروس والعبر والأحكام، من أبرزها ما سيأتي بيانه:
الرد على بعض الفرق المنحرفة الذين يزعمون بأن الله لا يعذب المسلم على معاصيه، وأن إيمان المطيع والعاصي سواء.
ذمُّ المخاصمة بين المسلمين، والتخاصم بشأن الدنيا لا يليق بالصحابة الكرام.
الحرمة المغلظة لسبِّ المسلم أخيه، ومرتكبُهُ فاسقٌ -إن كان على غير وجه حق- بالإجماع.
المنازعة والمخاصمة بين المسلمين قد تكونان سبباً في عقوبة تقع للعامة بذنب وقع فيه الخاصة؛ فقد حُرِمت كل الأمة عامةً إعلام الموعد الدقيق لهذِه الليلة المباركة بسبب تلاحي شخصين فقط بحضرة النبي الكريم.
حرص النبي وشفقته على أمته في قوله: (وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا)؛ فكأن في قوله بعض التأنيس للصحابة كي لا يتعاتبوا بعدها ويخاصموا الرجلين.
السباب من الذنوب التي يعجِّل الله عقوبتها في الدنيا؛ فقد حُرم المسلمون بسببها معرفة بعض ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم.
كلما أحدث الناس ذنوباً، أوجب ذلك خفاءُ بعض أمور دينهم عليهم.
شؤم معصية عدم غض الصوت عند رسول الله، فإنَّ عدم الاحتراز مِن فِعل ذلك قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم، إثمٌ ضررهُ متعدٍّ يحرم الأمة كلها من الخير.
الخلاف في الأحكام قد يكون رحمة؛ ولهذا حين سمع الإمام أحمد برجل صنَّفَ كتاباً سماه: "كتاب الاختلاف"، قال له الإمام أحمد: بل سمه "كتاب السعة"؛ فإن الحق -في نفس الأمر- واحد لا يتعدد، لكن قد يكون من رحمة الله ببعض الناس خفاؤه؛ لِما في ظهور ذاك الحق من الشدة عليهم، فقد يَسأل الناس عن أشياء إن تُبدَ لهم تسؤهم.
في هذا الحديث دليل قوي للرأي الذي يقول بأنَّ موعد ليلة القدر الصحيح قد يتنقل؛ جمعاً بين الأحاديث والآثار والقرائن والشواهد المختلفة في تعيين ليلة القدر بالضبط، ولعل هذا الرأي هو الأسلم والأقرب للصواب؛ فالجمع بين الأدلة الصحيحة أولى من الترجيح بينها، والله أعلم.