facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




انتفاء اليوتوبيا


محمد العامري
28-10-2023 11:21 AM

رغم مرور أكثر من أربعة قرون على مصطلح (اليوتوبيا) الذي استخدمه توماس مور في القرن السادس عشر "وهو يعني المجتمع المثالي"، ومع شيوع هذا المصطلح إلى يومنا هذا إلا أنها فكرة صعبة التحقق في مجتمعات صُنعت في سياق الكسب غير المشروع، الكسب بالقوة لتصبح القوانين صورة "لفترينا" الحداثة وما بعدها، نتشدق بها ونعول على الأمل المفقود الذي انغرس في ذواتنا كقيمة وهمية في مواجهة الشغف بالدم وإدامة القتل، فهي فكرة لمدينة شبحية تسمى اليوتوبيا، ونهر بلا ماء أي أن العالم يمارس مكياجه السياسي الكاذب عبر ميديا مأجورة لا تعكس سوى صور مشوهة، فأي يوتوبيا هذه التي تغطس في بحر من الدماء وصراخ الإنسان تحت وطأة الردوم، فلم يعد بمقدور الكائن أن يتصور يومه بلا دماء أو ضحايا، لم تعد الفضيلة مدار حديثنا الآن بكونها الغائب الوحيد في حضور رذائل القتل والابادة، يوتوبيا تمحوها دماء الضحايا والصمت الجاثم على صدر الحقيقة الغائرة في الضحية، رائحة الموت في كل زوايا الروح، صوت الخطوات الهاربة من سطوة الموت، طفل يحمل دميته بشغف المستقبل المحتمل، لكنه لا يفرق في لحظة الخوف بين صوت القنابل والألعاب النارية، فيزيد التصاقًا بدميته كي لا تموت الفكرة، فهي شقيقته التي يتحدث إليها في معظم يومه وينسج مسرودته المتخيلة ناظرا إلى زجاج عينيها، انتفت اليوتوبيا تماما ولم نعد قادرين على زراعة نبتة الضحك في وجه الأرض، فالضحايا تشيع ضحايا، يودعون بعضهم بعضا، والرحيل يأخذنا للموت، حيث يطلي الدم مساحة عريضة في الجدران المردومة، غيمة سوداء تركض وتفتح أقفاصها من جديد، تحجب زرقة سماء غزة، وفي الصور العائلية كل يوم تتآكل الصورة، حيث يقفز أحد شخوصها إلى سدة الموت، في نهاية الصورة لا صورة، مساحة سوداء خالية من شمسها.

فما تمارسه الصهيونية هو محض طلاء سميك لا يمكن أن يخفي نبض الحقيقة التي تكسر سماكة الدهان، فبقاء الأسباب يطيل من امد المقاومة، فهم يعرفون طبيعة العرب التي تتعمق في الكد للمطالبة بالحق بكونه جزء رئيسا من وجودهم الإنساني، فالواقع فاض بخرابه على سطح الدهان، حيث انتفاء المحو وديمومة الواقع الواضح في الحق، والدهشة ذاتها تستعيد عافيتها في كل صدمة تعترض وجودنا، فالنائم لم يغب أبدا كان يحلم بوطن مليء بالأشجار والأحفاد، رغم إصرار الثعالب على المراوغة.

لقد ظل جلالة الملك عبدالله الثاني الصوت الأعلى في تصريحاته عن الحرية والحق ولم يحيد الخطاب الأردني في كل جولاته العالمية عن البوصلة الفلسطينية العادلة، رغم كل الضغوطات، فتناغم مع الحراك الشعبي الذي توحد للانتصار لإخواننا في فلسطين بكونها القضية التي تختبر عدالة الكون، وأثارني قول كيم رئيس كوريا: "القضية الفلسطينية ليست قضية للعرب والمسلمين فحسب بل انها مسألة حرية".

لقد تورطت الأمة العربية في خطابها وممارستها السياسية في مراعاة القانون الذي لم ينتصر لهم ولو للحظة واحدة، فوقعنا في التوصيف وتحديد المشكلة التي تتمثل بإهمال الاحتلال الإسرائيلي لكل القوانين التي ادانته، كما لو أنه احتلال فوق القوانين.

فما جدوى ان نشخص المريض العربي بتقارير الوهم "الطب سياسي" من باب تخدير الفكرة واستنزاف المريض لآخر نفس في حلمه بالشفاء من الظلم، فالمسألة لا تنتهي عند حدود التوصيف الذي فاق الصورة الفوتوغرافية لحقيقة المريض، نتورط في كل مرة بتوصيف المريض وتأوهاته لكننا عاجزين عن وصف العلاج الذي يتكدس بجوار خزائننا، فنحن نعيد الأشياء ذاتها منذ سبعين عاما ونيف، لم نتعب من مراوغة واقع يزداد سوء، حيث الفضيلة في مبردات العدو، محروسة بالأقفال والبنادق، فالغيبوبة العربية تتفاقم إلى حد الموت السريري، لقد صنعنا تاريخا نمطيا لشهود الزور، وصنعوا من القتيل تمثالا مُبقع بالوشايات، حيث صرنا نصدر فقه النميمة البائسة، والفضيلة مجرد مفردة نزين بها دوائر الصالونات السياسية الباهتة، نتغذى على نفايات الفساد السياسي الذي أصبح نسقا مقبولا في دوائر ما يسمى بالنخبة، لكننا نغض البصر عن طفل وضع بقايا جثة أخيه في حقيبته المدرسية، حقيبة محشوة بنبض الضحية وأنين الشقيق، فأي احتمال هذا لمشهد أبعد من السوريالية التي اقترحها السورياليون في بديات القرن الفارط، فالحرفة الآن هي في صناعة الأقنعة متعددة الأغراض، قناع للميديا وآخر للسلطة وثالث للبيت والأصدقاء، والأخير للمرآة في مواجهة الذات الخربة.

فقد انتفت المسافة بين المهد والجنازة، كذلك انتهى الفارق بين النوم والموت، أخاف أن ننتهي كما انتهى موسوليني متخفياً بهيئة فلاح أيطالي، أو ننتهي كسلحفاة غاستون باشلار التي كانت أسرع من لعاب الذئب في الاحتماء ببيتها العظمي، فنهايات البطولة الورقية ستواجه مصيرا فادحا، حيث يقول ماركيز في روايته “خريف البطريرك”، "أين تعشش غربان السلطة في هذا المرمر الملون وتحت القباب المرصّعة"، فوسادة التاريخ محشوة بآلام الشعوب ستنفرط عن شمس تحرق بضوئها التحوت، وتصبح سردية طويلة لمجد القابضين على التراب، وهزيمة المتغطرس لتتحول إلى هامش منبوذ في دفاتر التاريخ، فالبطولة لوجود الإنسان وأحلامه مهما طال انسكاب الدم.

فرهان البقاء ليس مجرد رهان اقامة بل رهان هوية ووجود، حيث انتفت تكنولوجيا السلاح أمام من تجذروا في باطن الأرض، حيث كان المنطاد أكثر فاعلية من الطائرات المدججة بالأعين الإلكترونية، فالقوة وحدها لا تكفي لاقتلاع فكرة الشجرة، والآن نواجه فائض المعرفة التي لم تستطع إقامة صورة واحدة للعدل في فلسطين، واخترعنا مفردات مواربة في التعبير عن وضوح الضحية، فصار الواشي كائن واقعي، والمقاوم لم يفهم اللعبة، تماما كما كتب بريخت عن ثقافة الوشاية "حيث يصبح الابن جاسوسا على والديه"، والانسان بلا اسم أو عنوان، مما حدا بالأمهات الفلسطينيات أن يكتبن أسماء ابنائهن الضحايا على أكفهن، فتحولت الأكف إلى دفاتر تنغرس في لحم الأمهات الفلسطينيات، صورة مجلجلة ضد المحو، لم يعد هناك مكان لليوتوبيا في عالم انحرفت بوصلته نحو الباطل.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :