الحُزْنُ الاقتصادي .. القصة التي لم تُروَ
محمود الدباس - ابو الليث
22-01-2025 01:45 PM
ما زالت المجتمعات الإنسانية تتوارث العادات والتقاليد.. باعتبارها جزءاً من الهوية الثقافية.. وتعبيراً عن قيم اجتماعية نبيلة.. كالتكاتف والكرم.. ولكن حين تتحوّل هذه العادات.. من كونها وسيلة لتعزيز الروابط.. إلى عبء ثقيل على النفوس والجيوب.. لا بد أن نقف لنسأل.. هل نحن نحترم الموروث.. أم نحمل أعباءه دون وعي؟!..
لنأخذ مثالاً بسيطاً.. "طعام العزاء".. كان في الماضي.. تجسيداً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.. حين قال "اصنعوا لآل جعفر طعاماً".. أما اليوم.. أصبحت طقوس العزاء تتطلب من أهل الفقيد.. تقديم الطعام والشراب للمعزين.. في مشهد أقرب إلى الاحتفال.. منه إلى المواساة.. وكأن الحزن لا يكفي.. حتى يُثقل كاهلهم بأعباء إضافية.. وكما يُقال.. "موت.. وخراب ديار"..
وما كان يُعرف بـ"الجاهة".. ذلك الجمع.. الذي يُعقد لطلب يد فتاة.. وأساسها إقناع أهلها في حال رفضهم.. أو لتخفيض قيمة وتوابع المهر.. وبكونوا شهوداً على الإتفاق.. تحول إلى بروتوكول شكلي.. فارغ من مضمونه.. يقف فيه وجيه ليقول كلمات محفوظة.. كأنها مسرحية مكررة.. "أنخنا مطايانا ببابكم.. وأرجو أن تعطونا طلبنا.. واللي جينا بيه.. وقهوة الأجواد ما تبرد".. في حين أن عقد الزواج مكتوب.. والمهر متفق عليه مسبقاً.. كما قالها ذلك الرجل "جايين طالبين يد ابنتكم.. على اللي اتفقن عليه النسوان".. فأي قيمة تبقى لهذه المجالس.. سوى استعراض اجتماعي فارغ؟!..
في حفلات الأعراس والتخرّج.. تغيب البساطة.. لتحل محلها مظاهر التفاخر.. وكأن الفرح لا يُكمل إلا بإثقال كاهل العريس.. أو الخريج.. وعائلاتهم بديون تتراكم لسنوات.. أيّ فرح هذا الذي يترك وراءه حزناً اقتصادياً؟!..
التخفيف مسؤولية الجميع.. فالعادات والتقاليد ليست ثابتة.. بل تتغير للأفضل.. لتلائم الظروف الاجتماعية والاقتصادية.. فالإنسان يميل فطرياً إلى ما يحقق المصلحة العامة.. ويحافظ على التوازن بين القيم والواقع.. وعندما تصبح العادات عبئاً.. فإن استمرارها دون تغيير.. يؤدي إلى شعور بالضغط الاجتماعي والاقتصادي.. مما يؤثر على التماسك الأسري والمجتمعي..
العادات في جوهرها تحمل معاني عظيمة.. لكنها تحتاج إلى إعادة نظر.. لتعود إلى جذورها النقية.. دعونا نتذكر الحكمة القائلة.. "خير الأمور أوسطها".. فلنخفف من مظاهر الإسراف.. ولنحيي روح التكاتف الحقيقي.. الذي يعبر عن المحبة والمواساة.. دون استنزاف الموارد والطاقات..
البداية تبدأ بنا.. بكلمة نُخفف بها عن بعضنا.. وبفعل نُعيد به جوهر عاداتنا.. فلنكن نحن من يُحدث الفرق الذي طال انتظاره.. لنعد إلى البساطة التي كانت تجمع القلوب.. دون أن تثقل الجيوب..
ففرحنا لا يحتاج إلى ديون.. وحزننا لا يحتاج إلى طقوس.. بل إلى قلوب صادقة.. تقف بجانبنا في السراء والضراء.. وكما قال علي بن أبي طالب.. "ليس الغنى عن كثرة العَرض.. ولكن الغنى غنى النفس"..
فحين تصبح العادات عبئاً.. هل نمتلك الجرأة.. لنعيد النظر فيها؟!..
وهل نستطيع.. أن نصنع التغيير؟!..