ترامب ونتنياهو يصنعون الاوهام
محمد البطوش
06-02-2025 07:47 PM
عند تحليل تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد يبدو للوهلة الأولى أن بعض أفكارهم مستحيلة التنفيذ، مثل ضم غرينلاند أو كندا، أو تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة،ومن الناحية الواقعية، إن هذه المشاريع لا يمكن تحقيقها، لكن هذا لا يعني أن مجرد طرحها بلا تأثير، فالسياسة الحديثة لم تعد تعتمد فقط على القرارات الفعلية، بل أصبحت معركة على الوعي العام، حيث يتم التلاعب بالإدراك الجمعي لخلق واقع بديل يخدم أجندات معينة، حيث أن الخطاب السياسي الذي يتبناه ترامب ونتنياهو وهذا ليس مجرد عشوائية أو مبالغة، بل هو جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تحويل الأفكار المستحيلة إلى مواضيع قابلة للنقاش، وإجبار الخصوم على الدخول في سجالات حولها بدلًا من رفضها بشكل قاطع، وهذا الأسلوب لا يهدف فقط إلى إقناع الناس، بل إلى خلق بيئة نفسية تجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والوهم، مما يؤدي إلى تحولات تدريجية في المواقف السياسية والمجتمعية، َوهذه الاستراتيجية تعتمد على خلق ضجة إعلامية ضخمة حول قضايا غير حقيقية، بهدف تشتيت الانتباه عن القضايا الحقيقية أو تحقيق أهداف غير معلنة، عندما يتم تكرار فكرة معينة في وسائل الإعلام، حتى لو كانت مستحيلة، يبدأ الجمهور في التعامل معها كأمر مطروح للنقاش بدلًا من رفضها فورًا، وعلى سبيل المثال، تحويل قضية فشل إسرائيل عسكريًا في غزة إلى نقاش حول أين سيذهب الفلسطينيون وهذا يوحي بأن تهجيرهم أمر محتوم، بينما الخلاف فقط على الوجهة، وهذا التلاعب يجعل دولًا عديدة مستهدفة،، تبدو وكأنها في موقف تفاوضي بدلًا من كونها رافضة للفكرة من أساسها، وعندما تصبح الفكرة المطروحة جزءًا من الخطاب الإعلامي المتكرر،و يبدأ الرأي العام في التكيف معها على مستوى اللاوعي، حتى لو لم يكن مقتنعًا بها في البداية، فبدلًا من مناقشة مدى شرعية الفكرة أو أخلاقيتها، يتحول النقاش إلى تفاصيل تنفيذها، وهذا ما حدث مع العراق في الماضي، حيث تحولت كذبة امتلاك أسلحة دمار شامل إلى مبرر لحرب كارثية، لمجرد أن وسائل الإعلام أعادت طرحها من زوايا مختلفة حتى أصبحت تبدو وكأنها واقع لا مفر منه.
المعركة الحقيقية هنا ليست فقط في مواجهة هذه الأفكار، بل في إدراك كيفية صناعتها والترويج لها. ما يسعى إليه ترامب ونتنياهو ليس تنفيذ مخططاتهم بشكل مباشر، بل دفع الآخرين إلى التعامل معها بجدية، مما يمنحها شرعية زائفة. الخطر الحقيقي لا يكمن في قدرتهم على تنفيذ هذه المشاريع، بل في قدرتهم على جعل الناس يتعاملون معها كخيارات ممكنة. المطلوب ليس فقط رفض الفكرة، بل رفض مبدأ مناقشتها من الأساس، وكشف التلاعب الإعلامي الذي يحاول تحويل المستحيل إلى واقع محتمل، وإن التلاعب النفسي في الخطاب السياسي لا يهدف فقط إلى التأثير على الرأي العام، بل يمتد ليشمل صناع القرار، والإعلاميين، وحتى المعارضين، عندما يطلق ترامب أو نتنياهو تصريحات صادمة حول مشاريع غير قابلة للتنفيذ، فإن الردود عليها تأخذ شكل النفي والتوضيح، وهو ما يؤدي دون قصد إلى تعزيز الفكرة نفسها. فبمجرد دخول الفكرة في دائرة النقاش، تبدأ في اكتساب مصداقية ضمنية، حتى لو كان الهدف من الرد تفنيدها أو رفضها، هذا الأسلوب يجعل خصومهم في موقف دفاعي دائم، ويمنحهم السيطرة على السردية السياسية، وفي ظل هذا الواقع، يصبح الإعلام شريكًا غير مباشر في صناعة الوهم. فالتغطية الإعلامية، حتى لو كانت ناقدة، تساهم في انتشار الفكرة وإضفاء نوع من الشرعية عليها الجمهور بدوره، يصبح متلقيًا سلبيًا لهذه السرديات، حيث يتعرض يوميًا لوابل من التصريحات والتحليلات التي تعيد إنتاج نفس الأفكار من زوايا مختلفة. ومع الوقت، تتراجع ردود الفعل العاطفية تجاهها، وتتحول إلى جزء من المشهد السياسي العام. هذه العملية تُعرف بـ"التطبيع النفسي"، حيث يتم تحويل مام كان مستهجنًا أو غير مقبول إلى أمر مألوف، ومن ثم إلى احتمال وارد.
وعلى سبيل المثال، في قضية تهجير الفلسطينيين، لم يبدأ الحديث عنها كخطة سياسية واقعية، بل كتكهنات وتسريبات إعلامية وتصريحات متفرقة. لكن مع تكرارها المستمر من مصادر متعددة، باتت تُطرح كأحد "الخيارات المطروحة"، حتى من قبل أطراف ترفضها مبدئيا، وهذا التحول لا يعني بالضرورة أن التهجير سيحدث، لكنه يعكس نجاح الخطاب السياسي في فرض قضاياه على أجندة النقاش، وإجبار الآخرين على التعامل معها وفق شروطه، إن الخطورة في هذه الأساليب تكمن في قدرتها على تحويل الانتباه عن القضايا الأساسية، فبدلًا من التركيز على فشل إسرائيل العسكري أو انتهاكاتها المستمرة، ينشغل الإعلام والرأي العام بنقاشات جانبية حول مصير الفلسطينيين والبدائل المحتملة. وبدلًا من التركيز على أزمات الحكم والفساد داخل إسرائيل أو على تداعيات سياسات ترامب الشعبوية، تتحول المعركة إلى جدل حول تفاصيل غير واقعية، لكنها تستنزف الجهود والموارد، وإن التصدي لهذا النوع من التلاعب لا يكون فقط برفض الأفكار المطروحة، بل بكشف الأسلوب الذي يتم استخدامها به. لا يجب الانجرار إلى معارك مصطنعة، بل يجب إعادة توجيه النقاش إلى القضايا الحقيقية، وفضح محاولات تحويل الوهم إلى واقع، فالوعي النقدي ليس مجرد مهارة، بل هو سلاح في مواجهة التضليل والتلاعب بالعقول.