facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




من الملعب إلى المعنى


أ.د وفاء عوني الخضراء
19-12-2025 03:52 PM

لم تكن مشاركة المنتخب الأردني لكرة القدم في بطولة العرب الأخيرة مجرّد حضور رياضي في بطولة إقليمية عالية التنافس، بل كانت، في جوهرها، اختبارًا أخلاقيًا ومعنويًا عميقًا لمعنى اللعب، ولمفهوم المواطنة، وللسؤال الأكبر: كيف يمكن لفريقٍ محدود الموارد، كبير القيم، أن يصنع أثرًا يتجاوز نتيجة المباراة؟

جرت البطولة في لحظة عربية دقيقة، لحظة تتقاطع فيها الرياضة مع اقتصاد الاحتراف، حيث تتحول الملاعب إلى منصات رصد واستقطاب، وتصبح كل دقيقة لعب فرصة للانتقال إلى أندية كبرى ورواتب أعلى. في مثل هذا السياق، تصبح المنافسة هي اللغة السائدة، ويغدو الفرد مشروعًا استثماريًا بقدر ما هو لاعب. ومع ذلك، اختار المنتخب الأردني مسارًا آخر: مسار الفريق، لا الفرد؛ مسار "نحن" لا "أنا".

تميّز المنتخب الأردني، بوصفه فريقًا لا مجرد مجموعة لاعبين، باحترافية تكتيكية عالية وقدرة لافتة على إدارة اللعب بذكاء تحت أقسى الظروف. فعلى أرض الملعب، أظهر النشامى فهمًا عميقًا لديناميكيات اللعب، وتوازنًا دقيقًا بين الانضباط الخططي والمرونة التكتيكية، مكّنهم من التكيّف السريع مع تغيّر المعطيات، سواء بسبب الإصابات أو تبدّل إيقاع المنافسين. لم يكن الفوز في جميع المباريات التي سبقت النهائي وليد الصدفة، بل نتيجة أداء مستقر عالي المستوى، وقدرة مستمرة على المناورة، وإعادة توزيع الأدوار، وتعديل الخطط أثناء المباراة دون أن يختل تماسك الفريق أو يتراجع نسقه. بهذا المعنى، قدّم المنتخب نموذجًا لفريق يعرف كيف يفكّر جماعيًا، وكيف يحوّل الضغط إلى فرصة، والظرف القاسي إلى اختبار يُدار بعقل تكتيكي ناضج وأداء احترافي منضبط.

مصابًا، وقف يزن نعيمات ورفض المغادرة. في لحظةٍ كان المنطق الطبي يدعو للانسحاب، اختار البقاء، مدركًا أن الثمن قد يكون ركبته، ومستقبله، وعقودًا كانت تفتح له أبواب المجد. لم يكن ذلك تهوّرًا ولا بطولة فردية، بل قرارًا أخلاقيًا نادرًا، لحظة وعي نادرة يرى فيها اللاعب نفسه جزءًا من نَفَسٍ جماعي لا يجوز كسره. بالنسبة ليزن، الخروج في تلك اللحظة لم يكن إجراءً طبيًا، بل تصدّعًا في جسد الفريق، وانقطاعًا في خيط "معًا" الذي يصنع المعنى. في عالم تُحسب فيه كل خطوة بعائدها، حوّل يزن إصابته إلى بيان أخلاقي صامت: أن بعض اللحظات لا تُدار بالحساب، وأن بعض القيم لا تُقاس بالسلامة ولا بالمال، بل بالوفاء، وبالقدرة على أن تختار الجماعة حتى حين يكلّفك ذلك جسدك.

وحين ننظر إلى الملعب، لا نرى مجرد أسماء، بل منظومة أردنية متكاملة تمتد من القيادة الفنية والإدارية، إلى الجهاز التدريبي، وصولًا إلى اللاعبين. فسيفساء تنتمي إلى جذور اجتماعية وثقافية متنوّعة، لكنها تذوب في قميص واحد، ونبض واحد، وقلب واحد. في زمنٍ تتفكك فيه المجتمعات تحت ضغط سياسات الهوية والانقسام، جاءت كرة القدم لتؤكد أن الهوية الوطنية ليست إقصاءً بل احتضانًا، وأن الأردن، حين يفتح حدوده وقلبه للأشقاء العرب في أوقات الشدّة، إنما يستثمر في رأسمال أخلاقي يعود إليه احترامًا وتقديرًا، قبل أن يعود جوائز وتكريمًا.

لعلّ الدرس الأعمق الذي قدّمته هذه التجربة هو درس القيادة. فما شهدناه لم يكن إدارة رياضية تقليدية، بل نموذجًا للقيادة الأخلاقية التي تبدأ من القمة وتمتد جذورها إلى القاعدة. حضور سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، بقربه الصادق من الناس، وبانخراطه الحقيقي غير المتكلّف، لم يكن مشهدًا رمزيًا ولا لفتة بروتوكولية، بل ممارسة قيادية حقيقية تقول إن الدعم حين يكون قاعديًا، يصبح قوة بنّاءة.

لقد جسّد هذا الحضور معنى الاتصال الإنساني الأصيل، حيث تُبنى الثقة من الميدان لا من المنصّات، ويُصاغ النجاح عبر علاقة حقيقية مع الناس، قائمة على الإصغاء، والمساندة، والإيمان بالقدرات قبل النتائج. هكذا تُمارس القيادة حين تكون فعل التزام يومي، لا خطابًا عابرًا؛ وحين تكون قريبة، أصيلة، ومتجذّرة في الواقع، تتحوّل من موقع سلطة إلى طاقة إلهام قادرة على بناء فرق، وصناعة وطن واثق بنفسه.

ولم يولد هذا المعنى في فراغ، بل وجد تربته في نموذجٍ قياديٍّ نادر، تلاقت فيه الرؤية والرعاية، وتجسّد في الأمير علي بن الحسين. قيادةٌ تُبنَ على المحبة الصادقة، والإيمان العميق بالأردن وبإنسانه، وبقيمة الفريق بوصفه جماعة قيم قبل أن يكون منظومة نتائج.

في هذا الإطار، لم يكن جمال السلامي مدرّب أرقام ومباريات فحسب، بل ممارسًا للقيادة ؛ صاغ فريقًا متماسكًا لأنه عامله بكرامة، وبنى أداءً تنافسيًا لأنه آمن بالإنسان قبل الخطة. وبهذا الصدق، وبهذا الشغف النظيف، لم يفز بقلوب الأردنيين وحدهم، بل نال احترامهم العميق وتقدير القيادة، حين منحه جلالة الملك عبدالله الثاني الجنسية الأردنية تقديرًا لعطائه وإخلاصه. فاحتفل به الأردنيون واحدًا منهم، لأن الانتماء حين يكون صادقًا لا يحتاج إلا إلى إخلاص يُرى ويُعاش.

وإلى جانب هذا المشهد، حضرت سمر نصّار، بهدوئها وصلابتها، وبعملٍ مؤسسيٍّ لا يبحث عن الأضواء. عملت من الأرض، بصبر، وبالتزام يومي طويل النفس، فبنت استقرارًا إداريًا، وحمت الفريق من اهتزازات اللحظة، وربطت الأداء الرياضي برؤية وطنية ناضجة. لم تكن القيادة هنا صخبًا، بل ثباتًا؛ ولم تكن الإدارة شعارًا، بل عملًا متراكمًا يُرى أثره حين تُختبر القيم والأداء تحت الضغط.

هكذا، لم تكن حكاية المنتخب الأردني حكاية بطولة فحسب، بل درسًا أخلاقيًا مكتمل الأركان: لاعب يختار الجماعة على الجسد، وقيادة تمارس سلطتها بوصفها مسؤولية أخلاقية لا امتيازًا، ومدرب يقود بالحب والكرامة، وإدارة تعمل بصمت وبصدق. في زمنٍ تتشظّى فيه الفرق تحت ضغط المال والنجومية، قدّم الأردن نموذجًا نادرًا: أن التضامن يمكن أن يكون استراتيجية، وأن الأخلاق قد تكون أعلى أشكال الاحتراف.


أما الجمهور الأردني، فقد تحوّل من مشاهد إلى شريك. لم يكن التشجيع مجرد هتاف، بل طاقة جمعية معدية، خلقت جماليات خاصة للالتزام، وحوّلت المدرجات إلى قوة دفع نفسية، تؤكد أن الانتماء حين يُعاش بصدق، يصبح فعلًا منتجًا.

هناك مكاسب لا تظهر في الإحصاءات: بناء الثقة الوطنية، ترميم الأمل، إعادة تعريف النجاح، وتعليم الأجيال أن الأخلاق ليست هامشًا في التاريخ، بل صانعة له. هذه "العوائد غير المرئية" هي ما تصنع المواطنة والأمم على المدى الطويل، وهي في كثير من الأحيان أثمن من أي لقب.

لم تكن هذه البطولة مجرد حدث رياضي، بل كانت حكاية أردنية معاصرة.

هكذا، قال المنتخب الأردني كلمته: البطولة ليست دائمًا كأسًا يُرفع، بل قيمة تُرسَّخ. ومن هنا، يبدأ المستقبل.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :