الجزيرة والعربية .. بين صناعة الوعي وتوجيه العقول
د. محمد موسى ملكاوي
23-02-2025 10:33 AM
نحن في الدول العربية خرجنا جميعًا من رحم ما يسمى بالاستعمار في منتصف القرن الماضي، وقد شكلت قنواتنا التلفزيونية ومناهجنا الدراسية جزءًا أساسيًا في تكوين وعينا الجمعي، حيث غُرست في أذهاننا منذ الصغر فكرة المؤامرة. وما يُزرع في الطفولة يصعب أن يتغير في مرحلة الشباب، ولا حتى مع حكمة الكهولة. لذلك، مهما حاولنا تجاوز هذا الفكر، سيظل حاضرًا في وعينا السياسي والإعلامي، ويتجلى في طريقة تفاعلنا مع الأحداث، وكذلك في توجهات إعلامنا وحكوماتنا.
الإعلام العربي.. صناعة الوعي أم توجيه العقول؟
لا يمكن إنكار الدور المركزي الذي يلعبه الإعلام في تشكيل الرأي العام، حيث أصبح الإعلام العربي ساحة معركة للأفكار والتوجهات السياسية، وليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار. في ظل هذا الواقع، نرى أن القنوات الإعلامية الكبرى والصغرى في العالم العربي لا تمثل وجهة نظر محايدة، بل تتبنى أجندات محددة تخدم مصالح سياسية واقتصادية واضحة. وكل من يروج لحيادية الإعلام فهو كاذب أو واهم، فلا توجد محطة إعلامية تقدم خدماتها دون أجندة أو توجه معين، وهذا ليس عيبًا بحد ذاته، بل واقع الإعلام في كل مكان.
لنفهم المشهد الإعلامي العربي بعمق، يمكننا تحليل نموذجين مختلفين في طرحهما الإعلامي وهما: قناة الجزيرة وقناة العربية. فكل منهما تقدم رواية مختلفة للأحداث، لا بل متناقضة تمامًا في بعض الأحيان، مما يجعل المتلقي العربي في حالة من الضياع بين رؤيتين متضادتين.
الجزيرة.. إعلام الشعارات والأيديولوجيا
تعد الجزيرة أحد أهم أقطاب الإعلام العربي والعالمي كذلك، حيث تتبنى توجهًا أيديولوجيًا قريبًا من فكر جماعة الإخوان المسلمين. ولا تكتفي القناة بنقل الأخبار، بل تساهم في خلق شعارات وأحلام ثورية تعتمد على العاطفة أكثر من الواقعية. تقدم الجزيرة شعارات تحمل وهج الأمل، لكنها في كثير من الأحيان تكون منفصلة عن الواقع، تمامًا كما تفعل دورات التنمية البشرية التي تحفز الأفراد دون أن تقدم حلولًا حقيقية لمشكلاتهم.
توظف الجزيرة قضايا الأمة العربية والإسلامية في إطار يخدم مصالح سياسية محددة، مستخدمة خطابًا عاطفيًا يعبئ الجمهور أكثر مما يوجهه نحو التفكير النقدي. المشكلة الأكبر أن هذا النمط الإعلامي يعزز لدى بعض المشاهدين فكرة الموت من أجل الشعار، دون أن يتساءلوا عن صحة هذا الشعار أو قابليته للتطبيق.
أما العربية فهي الوجه الآخر من المعادلة
فعلى الطرف المقابل، تأتي قناة العربية، التي يمكن اعتبارها نقيضًا تامًا للجزيرة. فبينما تغرق الجزيرة في الخطاب الأيديولوجي وخلق شعارات تحمل بُعدًا ثوريًا، تبرز العربية كممثل وراعٍ لخطاب يخالف آمال الكثير من الجمهور العربي، سواء من حيث القضايا التي تتناولها أو من حيث الزاوية التي تتناول فيها تلك القضايا. ولا تقف عند حد الدفاع عن تلك القضايا بطريقة غير موضوعية، بل تقدم صورة مبالغًا في تجميلها، أحيانًا لدرجة تجعل المشاهد العربي يشعر أن الخطاب الإعلامي مجرد مكياج سياسي لا يعكس حقيقة الواقع. فبينما تحاول الجزيرة تضخيم المشكلات، تحاول العربية التقليل منها، مما يجعل المشاهد يشعر أنه أمام خيارين لا يمثلان الحقيقة كاملة.
بين الجزيرة والعربية.. أين الحقيقة؟.
تكمن قوة الجزيرة في أنها تمتلك فريقًا بحثيًا متميزًا، لكنها توظف هذا التفوق لخدمة أجندات محددة. وبالمقابل، تتميز العربية بحرفية أعلى من القنوات الرسمية العربية، لكنها تفتقر إلى الإقناع لأنها تتبنى خطابًا دعائيًا مباشرًا لا يتسم بالعمق.
المثير للانتباه أن الجزيرة تتصدر القنوات العالمية والعربية من حيث المشاهدة على منصات البث الرقمي المباشر، ما يدل على قوة تأثيرها، رغم كل الانتقادات الموجهة إليها. في المقابل، تبقى العربية أقرب إلى أن تكون "القناة الرسمية غير الرسمية"، حيث تقدم محتوى أكثر احترافية من الإعلام الحكومي، لكنه لا يزال بعيدًا عن التأثير العاطفي الذي تصنعه الجزيرة.
لكي نصل إلى الحقيقة فلا بد أن نستمع ونتابع الجزيرة وللعربية، فالحقيقة تكمن بين خطابيهما. والمشاهد لا ينبغي أن يكون مع أو ضد أي قناة بدافع الحب أو الكراهية، بل عليه أن يتعامل مع جميع الوسائل الإعلامية كمصادر للمعلومات، ثم يقوم بتفكيك هذه المعلومات وتحليلها لاستخلاص الحقيقة.
فكما لا يمكننا فهم جمال اللون الأبيض دون وجود اللون الأسود، لا يمكننا تقييم الخطاب الإعلامي دون وجود التباين بين وجهات النظر المختلفة. ويحسب لكل من الجزيرة والعربية أنهما خلقتا مشهدًا إعلاميًا عربيًا مؤثرًا، سواءً على المستوى الإقليمي أو العالمي، حتى لو كانت لكل منهما أجندتها الخاصة.
وختاماً أقول إن هناك بصمة إعلامية عربية صنعتها قناة العربية والجزيرة وغيرهما من القنوات الإعلامية.. سواء اتفقنا معهم أو اختلفنا، لا يؤثر على كونهم جعلوا للإعلام العربي لونًا.
* الدكتور محمد موسى ملكاوي
مستشار قانوني وتميز مؤسسي