ساعات قليلة تفصل ألمانيا عن نتائج الانتخابات البرلمانية، اليوم الأحد، وتتنافس فيها ثلاثة أحزاب رئيسية لحكم البلاد، للسنوات الأربع القادمة. أولها "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" الحاكم، بزعامة المستشار أولاف شولتز، الذي يوصف في بلاده بـ "البراغماتي الصامت"، صاحب الشعبية المتدنية حالياً.

وثاني هذه الأحزاب التي تنافس على الفوز بالحكم "حزب الإتحاد الديمقراطي المسيحي"، (حزب ميركل)، بزعامة رجل القانون "فردرتش ميرتس"، اليميني المحافظ والخصم العنيد لشولتس.

وثالث الاحزاب الألمانية هو "حزب البديل من أجل ألمانيا" بزعامة "أليس فايدل"، اليمينية غير التقليدية التي ترى في "ترامب" مثلُها الأعلى.

صعود أحزاب اليمين في الغرب:
يبدو أن هذه المرحلة، في الغرب، تشهد انكفاءةً للأحزاب اليسارية التي بدأت بالتراجع، على ضفتي الأطلسي، مثلما حصل في الحالة الأمريكية، حيث تعرض الحزب الديمقراطي الأمريكي، اليساري، الى هزيمة انتخابية ساحقة على يد "اليمين"، ممثلاً بالحزب الجمهوري، بزعامة دونالد ترامب.

وقبل ذلك حققت الأحزاب اليمينية نجاحاً كبيراً في الانتخابات في أنحاء أوروبا، بدءاً بايطاليا، ثم فرنسا، ثم هولندا. ثم أخيراً جاء الدور على ألمانيا لقرب تحولها الى "اليمين" بعد أن جربت ائتلافاً يسارياً، لم يعمر طويلاً. حيث تولى الحكم أواخر عام 2021، بقيادة المستشار "أولاف شولتز"، وضم "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" برئاسته، و"حزب الخُضر"، و"الحزب الديمقراطي الحر".

خلاف على تمويل الحرب الأوكرانية تسبب بإنهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا:
وجاء انهيار الائتلاف الحاكم في ألمانيا، قبل عدة أشهر، أواخر عام 2024، بعد خلاف نشب بين المستشار "شولتس" وبين وزير ماليته "كريستيان ليندنر"، على خلفية إصرار الشركاء في الائتلاف، من حزب الخُضر، على عدم تخصيص مبالغ مالية في الموازنة لدعم أوكرانيا، في حربها مع روسيا، بينما أصر المستشار على ذلك. إضافة لخلافات اخرى بشأن كيفية معالجة أزمات اقتصادية ومالية تعصف بأكبر اقتصادات أوروبا.

انجازات المستشارة أنغيلا ميركل:
وكان "أولاف شولتز" قد خلف المستشارة السابقة "أنغيلا ميركل"، ابنة القسيس، وأول امرأة تحكم ألمانيا، كزعيمة حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، التي حكمت ألمانيا لمدة 16 عاماً، في 4 دورات انتخابية متتالية، بدأت عام 2005.

قادت ميركل بلادها بكل اقتدار فاكتسبت سمعة عالمية رفيعة، وحصلت على ألقاب عديدة تكريما لها على انجازاتها ومساهماتها على مستوى بلادها، والاتحاد الأوروبي، والعالم. فكان لها مساهمات حاسمة في إدارة الأزمة المالية، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتوصل الى حلول لها. وقد سميت ميركل بـ "صاحبة القرار" فيما يتعلق بسياستها الداخلية، حيث كان من نجاحاتها إصلاح نظام الرعاية الصحية، ووضع حلول للمشاكل القادمة، بتطوير مجال الطاقة، ودورها في معالجة أزمة المهاجرين، الذين تدفقوا على ألمانيا، وعموم أوروبا. وبذلك صعّبت مهارات ميركل القيادية على من سيخلفها أن يملأ الفراغ الذي تركته.

عهد شولتس: صراعات وعدم كفاءة:
رغم أن حكومة شولتز حققت بعض الإنجازات المهمة، إلا أن فترة حكمه القصيرة اتسمت بصراعات مستمرة داخل الائتلاف، وتركت انطباعاً بعدم كفاءة الأداء الحكومي، بالمقارنة بعهد ميركل. ومن إنجازات شولتز أن حكومته حالت دون حدوث أزمة طاقة، في ألمانيا، إثر توقف إمدادات الغاز الروسي، بعد اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية.

أما خطة شولتز في تحديث الجيش الألماني، فإنها تلقى صعوبات في التمويل، إذ أنه أنشأ لهذا الغرض صندوقاً خاصاً، بمئة مليار يورو، خارج إطار الموازنة، تم تمويله عبر الديون. لكن الخبراء الألمان يقولون أن هذه القيمة لا تكفي، ويخشون من أن يقوم شولتز بتحديث الجيش على حساب المساعدات الاجتماعية، التي تستهلك ثلث الموازنة الألمانية، وهو الأمر المرفوض سياسياً وشعبياً. وكان هذا الأمر إحدى نقاط الخلاف بين شولتز وائتلافه الحاكم.

وفي ضوء هذه الخلافات التي عصفت بالحكومة الألمانية على جميع الأصعدة، وعدم التوافق بين أحزاب الائتلاف الحاكم، تقرر حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة في هذا اليوم الأحد، 23 شباط فبراير 2025.

"فريدريش ميرز" الأوفر حظاً ليخلف "شولتز":
وعليه أعلن المستشار الحالي "أولاف شولتز" نيته الترشح للمنصب مرة اخرى عن حزبه "الاشتراكي الديمقراطي"، إلا أن بعض أعضاء الحزب أبدوا عدم رغبة في ترشيحه، بسبب تدني شعبيته، واقترحوا أن يكون مرشحهم وزير الدفاع، "بوريس بيستوريوس"، الذي يحظى بشعبية كبيرة.

ومن جانب المعارضة، نجد أن "فريدريش ميرتس" هو أبرز المرشحين لمنصب المستشار، عن "حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، حزب ميركل. فقد جرى اختياره مؤخراً كمرشح رسمي عن الحزب، الذي يتصدر استطلاعات الرأي. ويرجح المراقبون أن "ميرتس" سيفوز في الانتخابات البرلمانية. وبالتالي، على الأغلب أن يصبح مستشار ألمانيا القادم، خلفاً لشولتز.

الخلاصة: ماذا تعني عودة أحزاب اليمين إلى الحكم في الغرب؟:
وهكذا فإن دول الغرب عموماً تشهد موجة تراجع أحزاب اليسار وعودة أحزاب اليمين الى الحكم. ومن المرجح أن تسير ألمانيا على خطى ايطاليا، وفرنسا، وهولندا. وتكون قد سبقتها للتو الولايات المتحدة الأمريكية، بعودة اليمين، بزعامة دونالد ترامب" الى البيت الأبيض.

لقد أصبح تداول السلطة، أو تناوب اليمين واليسار على إدارة دفة الحكم، في "الديمقراطيات الغربية"، يعكس ظاهرةً أعمق مما يبدو على السطح. فهذا "التداول السلمي للسلطة"، كما يبدو، لم يعد يعكس حالة التعايش بين الأفكار والآيدولوجيات، كما كان من قبل. بل أصبح يعكس حالة عدم التعايش بينها، خاصة في الحالة الأمريكية.

فهناك اليمين المتدين، الذي يحمل قيماً وأفكاراً أصبحت تتباعد كثيراً عن القيم والأفكار التي يحملها اليسار غير المتدين، بل أصبحت قيمهما وأفكارهما تتناقض تماماً، ولا تلتقي أبداً.

سبب ذلك أن اليسار الأمريكي أخذ في العقود الماضية يحاول أن يفرض، على النصف الآخر من المجتمع، بشتى الطرق، اعتناق القيم التي يؤمن بها والأفكار التي يحملها. فنتج عن ذلك فجوةً، ثقافية واجتماعية وسياسية، وتباعداً بين نصفي المجتمع، وهذا يفسر التصادم والعنف الذي ظهر في نهاية ولاية ترامب الأولى، حين فقد اليمين السلطة. ومنذ ذلك الحين، أصبح كثيرون يتحدثون عن احتمال اندلاع حربٍ أهلية في البلاد.

وربما تكون هذه الحرب الأهلية المحتملة، التي يتخيلها البعض، هي نفسها "الحرب العالمية الثالثة" التي يتحدث عنها آخرون. فلن تكون حرباً عالمية تقليدية، بين قوىً استعمارية تتصارع على المصالح والنفوذ في العالم، كما حدث في الحرب العالمية الأولى والثانية. بل ستكون حروباً أهلية داخل مجتمعات منقسمة على نفسها، بين يمينٍ متدينٍ ويسارٍ غير متدين.