facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس


ياسر قبيلات
10-04-2025 01:04 PM

(مهداة إلى ناهض، في كل يوم وساعة!)


أرسل جدي «موسى الدعاس» ورائي، يطلبني؛ فأسرعت إليه في مجلسه. كان يقف مقطباً، ويتحسس بأصابع يمناه أسفل ذقنه المشذبة. ولما شعر بي، نظر إلى يدي وتمتم بغيرما رضى: «ليس عليهما أثر الكتب!».

ارتبكت لأني لم أفهم ما يعني، فلذت بالصمت، وانتظرت أمره الذي استدعاني له. وهان عليَّ الوقت الذي بقيته مضطرباً حينما قال لي مهموماً:

-الناس جايين يختصمون عندي. وأنا ليس عندي أحد. روح شوف جارنا الدكتور كارل ماركس، بلكي يكون فاضي. قل له الحاج موسى وده إياك!

أسرعت من فوري إلى جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس. وبينما كنت أبلغه برسالة جدي، لمحت أخي الكبير سعود، في الداخل أمام المكتبة، يُصفِّط على ساعده بعض الكتب ويسرع خارجاً بها من باب البستان.

وهذا المشهد لم يغب عن بالي أبداً، منذها. ثبت في خيالي إلى اليوم. وهو ما يدفعني إلى التفاخر، لدى الحاجة، بالإشارة إلى أن المرحوم الدكتور كارل ماركس كان من أهالي مليح، وجارنا. وكان يطلب مع جدي («موسى») كل أسبوعين سيارة «عيسى الحلو» أو «سلمي السنيد»، ويستقلانها إلى مأدبا، ويمران بـ«أحمد العلاوي»، ثم يعطفان على «جميل الصوالحة» في محله، ثم ينتهي بهما الأمر بحديث طويل مع عمي «جميل الضباعين» بمتجره في «مربعة مادبا الفوقانية»..

ما علينا..

ذهبت أستدعي جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس؛ فلبى الدعوة، وجاء واحتسى القهوة مع جدي. ثم جاء القوم المختصمون، وقالوا كلامهم المتوتر، الذي يتوخى الإقناع. وفي نهاية الأمر أصدر جدي حكمه مُصدّراً بمقدمة لم أعهدها من قبل.

قال:

-من عندي، ومما يقوله جارنا الدكتور كارل ماركس..

وأصدر حكمه بذلك؛ ويبدو أن كان مقنعاً للمتخاصمين، ليس فقط لأن جدي مقنع وحازم وله سمعته في هذا الجال، ولكن لأن أعين المتخاصمين تعلقت بلحية جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس، وأظن أن بعض كثير من رضاهم كان سببه الثقة بلحيته الغانمة.

عموماً، كان ذلك أول وآخر مجلس قضاء بدوي يشارك فيه جارنا الشهير، المرحوم الدكتور كارل ماركس. كان انشغل بما بعد رسالة الدكتوراة. ولكن بعده، قام بمثل هذا الواجب عمي المرحوم الحاج لودفينغ فان بتهوفن، ولمرة واحدة أيضاً.

بعد سنوات سألت جدي «موسى» عن حكمه، الذي أسنده إلى جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس من بعد نفسه.

قلت له:

-ألم يكن من المفروض أن تقول: «من عندي، ومن عند الأجواد اللي قبلي»..؟

نظرني متأملاً، وأصابع يده على فمه، كما لو كان يحتضن بها لفافة تبغ، وقال:

-إنت ما تخبر ليش ناديتك..؟ الأجواد غابوا عني، وجارنا الدكتور كارل ماركس قدها. كفى ووفىّ!

بعدها بأيام، لاحظت أن جدي مهموم، ورأيت فوق رأسه غيمة إنزعاج؛ فتذكرت على الفور أنني لم أرَ أخي سعود منذ أن انتخب لنفسه بعض الكتب من مكتبة جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس، وخرج بها من باب البستان..

لقد غاب، واختفى.

وكان «موسى»، كما كنت أناديه، يوّقر حفيده «سعود» منذ صغره، وتنتابه نوبات من الخشوع لدى سماعه أحداً يذكر اسمه؛ كأنه كان يشعر أن في «سعود» شيئاً مما كان يريد أن يكون في نفسه وسيرته.

سألته:

-ما تعلمني يا «موسى» وين راح «سعود»..!؟

قال لي:

-ما تخاف يا جدوه. أخوك سعود راح عالحبس، بعيد عن الدوشة والناس، عشان يقدر يقرأ كتب جارنا الدكتور كارل ماركس الله يسامحه.

كان هذا ألطف تعبير سمعته، يُجمّل الحقائق المرة، ويُلطف الحيثيات الوعرة الصعبة في علاقة المرء بوطنه، ودولته.

المهم..

طال العمر بجدي، ولكن في النهاية جرى عليه ما يجري على كل الرجال؛ مات. وكان مات قبله، بالطبع، جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس، وغاب أعمامي: الحاج «لودفينغ فان بتهوفين» و«أحمد العلاوي» و«سليمان الثاني» و«جميل الصوالحة»، وطبعاً، العم الكبير.. «جميل الضباعين».

أما «سعود» فقد احتاج إلى وقت إضافي ليتم قراءة كل تلك الكتب التي انتخبها لنفسه من مكتبة جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس، فبقي في الحبس لمدة أطول.

وبذا، لم يحضر وفاة جدي، وغاب عن تشييعه. وكان الجميع يدرك أنه ما يزال منكباً على اتمام قراءة كتب جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس.

وأتذكر. أتذكر جيداً أننا بينما كنا نضع جدي «موسى» في مثواه، هتف بي:

-يا ولد!! قول لأخوك ما يستعجل. ما يطلع قبل ما يخلص قراية كتب جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس!

ولا أعرف لماذا إلى اليوم يتكرر الحلم في منامي: أسمع صوت «موسى» يناديني: «يا ولد تعال صب قهوة!»، فأهرع إليه، وحينما أصله، أجد في مجلسه جارنا المرحوم الدكتور كارل ماركس.

أراهما يتسامران في جلسة مازحة، كأنما هما شابان في مقتبل العمر يتذاكران بمرح قصصهما الغرامية مع «بنت الذين» الحياة..!





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :