الصمود الأردني: مشروع مقاومة يتجاوز البندقية
13-04-2025 03:56 PM
لم يكن أبي، في سنوات عمره الأخيرة، يتحدث عن السلاح كثيرًا، رغم أنه عاش زمن الحروب، وشهد هزائم وانتصارات. كان يقول: "المقاومة ليست دائمًا بندقية تُرفع، بل كثيرًا ما تكون كلمة تُقال، أو موقف لا يُباع، أو جذور تُغرس في الأرض فلا تقتلعها الريح."
في الأردن، تعلّمنا أن نُقاوم بصمتٍ نبيل، في وطنٍ تحاصره التحديات من كل الجهات، لكنه ظل واقفًا، يتكئ على صخوره، ويستمد من ذاكرته الجماعية معنى البقاء. نحن أبناء هذا النسيج الذي لا تُمزقه الأزمات، لأن خيوطه نُسجت من أملٍ طويل وصبرٍ عميق.
كم أخطأ من ظن أن المقاومة حكرٌ على الجبهات، أو أنها لا تكون إلا في الخنادق. نحن نقاوم حين نُعلّم أبناءنا أن الكرامة ليست سلعة، وأن الانتماء لا يُقاس بما نأخذ من الوطن، بل بما نعطيه. نقاوم حين نُصلح طريقًا مهجورًا، ونرعى شجرة في جرش، ونحمي تراثنا من النسيان. نقاوم حين نرفض الفساد، لا نُصفق له، وحين نبني بالعلم جسورًا فوق اليأس، لا أنفاقًا للهروب.
والأهم من ذلك، أننا نُدرك بأن الضغط على الدولة نحو المغامرة العسكرية، تحت وطأة العاطفة أو ردّات الفعل، ليس مقاومة، بل انتحارٌ سياسي واستراتيجي لا نقبل به. الأردن مشروع صمود لا مشروع مواجهة مفتوحة، ومَن يُريد منّا الانجرار إلى مستنقعات تُنزف فيها الأوطان، يجهل جوهر هذا البلد الذي ظل يحمي حدوده بالعقل، ويحمي شعبه بالحكمة.
الصمود الأردني لم يكن يومًا شعارًا؛ بل كان فعلًا يوميًّا يعيشه الناس في تفاصيلهم البسيطة: في المزارع التي تزرع برغم شُح الماء، في المدارس التي تُعلّم رغم الفقر، وفي البيوت التي لا تزال تفتح أبوابها للغريب قبل القريب.
هذا الصمود هو مشروع الأردن الحقيقي. هو الطريق الذي نرسمه للمستقبل، ليس فقط بالحفاظ على ما تبقى، بل بصناعة ما يجب أن يكون. نحن لا نُدافع عن خريطة فحسب، بل عن هوية لا تقبل التفكك، وعن مجتمعٍ يعرف أن قوته في وحدته، وفي اتساع صدره لكل من آمن بالعدل والانتماء.
أن تكون أردنيًا في هذا الزمن، يعني أن تختار أن تصمد حين ينهار من حولك الكثير. أن تُربّي أبناءك على الحُب، لا الكراهية، وعلى الوعي لا الخوف، لأن المستقبل لا يُبنى بالهروب، بل بالثبات في وجه الريح.
من الكرك إلى جرش، من السلط إلى معان، من البادية إلى المخيم، تُكتب حكاية هذا الصمود، لا بالأرقام، بل بالقلوب التي لم تتعب من حمل الوطن. نقاوم حين نؤمن أن الأردن ليس عابرًا، بل ضرورة. وأن مشروعه، مهما بدا صغيرًا أمام جبال العالم، هو مشروع حياة لا مشروع رد فعل.
الصمود، لا السلاح، هو ما سيبقي هذا الوطن. هو ما يجعل من الأردن فكرة لا تموت، وإن تغيرت كل الخرائط من حوله.