من قاعات الدرس إلى هامش الخطر: أين أخفقت جامعاتنا؟
د. جاسر خلف محاسنه
19-04-2025 09:44 AM
في لحظة لم تكن استثنائية بقدر ما كانت كاشفة، طفت على السطح أنباء تفكيك خلية متطرفة تضم بين أفرادها خريجين من كليات الهندسة في جامعات أردنية يُفترض أنها بين الأرفع شأنًا. لم تكن الواقعة صادمة بقدر ما كانت مرآةً مقلقة لانعكاسات غياب المناعة الفكرية في مؤسساتنا الأكاديمية، تلك التي يُفترض أن تكون خطوط الدفاع الأولى لا المختبرات التي تُغفل إشارات التحوّل والانزلاق.
لسنا هنا بصدد الإدانة أو الإشارة بالأصابع، بل بصدد مساءلة عميقة لمسار جامعي بدا، في بعض مفاصله، منفصلًا عن واقعه الاجتماعي والسياسي. فالجامعة ليست مجرّد حرم دراسي؛ إنها بيئة حاضنة للوعي، وشبكة متكاملة لصناعة الانتماء، ومساحة من المفترض أن تحضن القلق وتوجّهه لا أن تتركه نهبًا للفراغ.
حين يتحوّل التعليم إلى سلسلة من المحاضرات المجدولة والامتحانات المتراكمة، وتغيب البرامج التفاعلية التي تصقل الفكر وتغذّي الحوارات، يخرج الطالب من أسوار الجامعة محصنًا بالمعرفة التقنية، لكنه مجرّد من أدوات الفهم العميق للعالم من حوله. وهنا، تتسلّل السرديات المتطرفة في المساحات التي أُهملت، وتُملأ الثغرات التي تركها غياب المعنى.
لقد جاء قانون الأحزاب داخل الجامعات كتوجيه ملكي يحمل في جوهره مشروعًا نهضويًا لإشراك الشباب في الحياة العامة، وتمكينهم من أدوات الفهم والتعبير والممارسة السياسية الآمنة. إلا أن نتائجه بقيت، إلى اليوم، باهتة ومترددة، لأسباب تتراوح بين الخوف المؤسساتي، والجمود البيروقراطي، وانعدام الإيمان الحقيقي بقدرة الطالب على أن يكون فاعلًا لا مجرد متلقٍ. تم تقزيم الفكرة إلى فعاليات رمزية، وتم إفراغها من طاقتها التحولية.
في هذا المشهد، تبرز عمادات شؤون الطلبة كأطراف معنية مباشرة كان يُفترض أن تكون حاضنة للرؤية الملكية، لا مجرد وحدات إدارية. غابت المبادرات التي تُشعل الوعي، وحلّت مكانها نشاطات مناسباتية، وارتُكنت الأفكار الجادة جانبًا لحساب الإجراءات اليومية. لقد فشلت كثير من هذه العمادات في أن تؤسس لمساحات نقاش حر ومسؤول، وفي أن تخلق توازنًا بين الحرية والانضباط، بين الرعاية والمساءلة.
غير أن الإخفاق لا يمكن اختزاله في الإدارات وحدها؛ فكل عضو هيئة تدريس هو شريك في صناعة الوعي. كل حصة دراسية تحمل إمكانية أن تكون بذرة شك أو يقظة أو انتماء. وحين ينسحب الأكاديمي إلى عزلته البحثية، ويتحول الصف إلى قاعة صامتة لا تطرح الأسئلة، تفقد الجامعة جوهرها: أن تكون ساحة للمعنى قبل أن تكون مصنعًا للشهادات.
هذه ليست دعوة للتهويل، بل جرس إنذار نابع من مسؤولية وطنية. لا نملك ترف الإنكار ولا رفاهية التأجيل. إن بقاء الطالب في منأى عن الفهم السياسي، والإدراك المجتمعي، والانخراط المدني، يفتح الباب لغيرنا ليملأ هذا الفراغ: جماعات، أفكار، وسرديات تنمو بهدوء في الظل.
ما نحتاجه ليس إصلاحًا تقنيًا، بل مراجعة شاملة لدور الجامعة في الزمن الأردني الراهن. مراجعة تُعيد الاعتبار للطالب بوصفه محور العملية التعليمية، وللأستاذ بوصفه ضميرها، وللحرم الجامعي بوصفه مساحة تفكير لا فقط جدرانًا مغلقة. وحدها الجامعة التي تُصغي لأسئلة طلابها وتقلق من صمتهم، هي الجامعة التي تحميهم، وتحمي الوطن معهم.