"على هذه الأرض، مشى الآباء حاملين البندقية والمحراث، يحمون الحمى ويبنون الحقول. وفي ظل الراية الاردنية الهاشمية، عاش الاباء و الأجداد رافعي الهامة، لم يطلبوا من الدنيا غير الكرامة ولم يرضوا للوطن إلا السيادة. فكيف نسمح اليوم أن تُنتزع منّا هويتنا بألسنة مأجورة وأقلام تتخفى تحت عباءة الحرية؟ لن نفرّط بإرثهم، ولن نسمح للنماذج المحيطة – التي زرعت الفوضى مكان الدولة، والريبة بدل الثقة – أن تكون جزءًا من مستقبلنا أو حتى على طاولة حوارنا. فالأردن ليس تجربة قابلة للتشكيك، بل ركيزة لا تمس."
في زوايا التاريخ، لا تُقاس الفتن بحجم الحروب، بل بعمق الشرخ الذي تتركه في وعي الأمة، حين تختلط الأصوات وتضيع المعايير، ويستحيل التمييز بين الحق والباطل. وفتنة صفّين كانت مثالًا على لحظة كهذه؛ حين عجز الناس عن رؤية الطريق الواضح، فقيل فيها: "لا سنة ولا فرض". واليوم، ونحن نتابع كيف تحاول بعض الأصوات المتطرفة التحريض على الدولة الأردنية، تعود إلينا هذه العبارة لا كتوصيف لحرب، بل كمرآة لفتنة فكرية تهدد وحدتنا وتماسكنا.
ليست الفتنة المعاصرة عسكرية، بل فكرية تلبس لباس الدين، وتُلبّس الباطل ثوب النصح. فالفئة الضالة اليوم لا تنطق فقط باسم المظلومين أو المهمّشين، بل تتوسل بالدين لتبرير مواقفها، وتضع نفسها وصيًا على الضمائر. وهنا، لا بد من التوضيح أن مصطلح "الفئة الضالة" لا يشمل كل الإسلاميين، فبينهم رجال صدقوا، وكانت مواقفهم نابعة من الوجدان الأردني، ومن روح الإسلام الحقة: تلك التي تنشد الإصلاح لا الفوضى، وتغلب المصلحة العامة على الأهواء الشخصية. الإسلام، كما عرفه الأردنيون في بيوتهم ومساجدهم وقراهم، كان دومًا دين رحمة وعقل، لا منصة للصراع أو وسيلة لتفكيك الدولة.
لم تكن الدولة الأردنية يومًا ضعيفة أمام التحديات، بل متجذّرة في الوعي الشعبي، ومبنية على توازن دقيق بين الأمن والحرية، بين الانتماء والاختلاف. لكن ما تواجهه اليوم ليس مجرد خلاف في الرأي، بل هجوم ممنهج على ثوابت الدولة، ومحاولة لبث الشك في نفوس الناس تجاه مؤسساتهم، واستغلال قضايا عادلة أحيانًا لخلق حالة من الصدام المجتمعي. والتحريض لم يعد مقتصرًا على الحناجر، بل صار خطابًا مموّهًا، يتخفى خلف مفردات الحقوق ليصيب جوهر الاستقرار.
حين تتحول السياسة إلى زعيق، ويتخذ البعض من حرية التعبير ستارًا للفوضى، لا تعود هذه ممارسة ديمقراطية، بل فتنة تمس أركان الدولة الأردنية. لم تعد الغاية إصلاحًا، بل تقويضًا مقصودًا للثقة العامة، ومحاولات ممنهجة لعزل الدولة عن شعبها. فالمعارضة الوطنية التي تؤمن بالدولة وتطمح إلى تحسينها تختلف تمامًا عن أولئك الذين يريدون إسقاطها لينتصبوا على أنقاضها بديلاً زائفًا.
الأردنيون بحاجة اليوم إلى صوت عقلاني، يُوازن بين النقد البناء والانتماء العميق، بين الحرية وبين الحفاظ على النسيج الوطني. الدين، كما عرفناه، لا يجيز الكذب ولا التحريض، ولا يرضى بأن يُختطف ليُصبح أداة بيد المتنطّعين. الفكر الديني الأصيل كان دومًا حاميًا للوطن، لا معولًا لهدمه. ومن هنا تأتي الحاجة إلى مراجعة حقيقية للخطاب الديني الموجَّه للجمهور، وتصحيح المسارات التي انحرفت عن جوهر الدين ومصلحة الوطن.
في زمن الفتن، لا مجال للتأويل الرمادي. فهناك حق واضح لا لبس فيه، يتمثل في الدولة الأردنية ومؤسساتها، وفي الحفاظ على أمن المجتمع وكرامته. ويجب أن يوضع حدٌ لمن اختطف مكونًا أساسيًا من نسيجنا الوطني، وجعله منبرًا للتحريض والتفتيت. لا أعذار في مواجهة من يعبث بالثوابت، ولا مهادنة مع من يحاول تفكيك الدولة من الداخل. إنفاذ القوانين يجب أن يكون واضحًا، بلا تردد، وبلا تفاوت، لأن الفتنة حين تتسلل باسم الدين أو الحرية، تكون أشد فتكًا من كل جيوش العالم.