الولاء لم يعُد خيارًا: الدولة تُغلق الهامش
د. جاسر خلف محاسنه
22-04-2025 01:40 AM
ما جرى في نيسان 2025 لم يكن مجرد مشهد سياسي عابر؛ بل لحظة فاصلة في التاريخ السياسي الأردني، شبيهة بتلك المنعطفات الحاسمة التي اعتادت الدولة أن تعيد فيها تعريف ذاتها وهويتها وخطابها. الدولة الأردنية، التي تأسست على توازن دقيق بين الشرعية والانفتاح، قررت اليوم أن تُغلق الهامش، وتُنهي مرحلة المواءمات الرمادية التي أرهقت مشروعها الوطني.
هذا القرار لا يأتي من فراغ. فمنذ تأسيسها في العشرينات، اختارت الدولة الولاء قاعدة للانتماء لا للموالاة، وراهنت على بناء وطن يسبق الانتماءات الضيقة. وفي السبعينات، حين اختلطت البنادق بالشعارات، وحاولت فصائل العمل المسلح أن تؤسس كيانًا داخل الكيان، اتخذت الدولة قرارها الحاسم في أيلول 1970، وأعادت تثبيت سلطتها المركزية باعتبارها شرط البقاء.
واليوم، يعيد المشهد إنتاج ذاته بلغة مدنية لا عسكرية. فما جرى تحت قبة البرلمان لم يكن جدلًا حول حادثة، بل امتحانًا وطنيًا لمنظومة كاملة من الأحزاب والنخب. اختبار كشف من لا يزال يتعامل مع الدولة كخيار قابل للتفاوض، لا كقدر نهائي لا مساومة عليه.
لقد بدا واضحًا أن بعض القوى لم تحسم بعد ولاءها الكامل للدولة الأردنية. هذا التردد لم يعُد يُقرأ كتحفّظ، بل كخيانة بطيئة. الدولة، بوعيها العميق لطبيعة اللحظة، لم تنتظر مزيدًا من التفسيرات. قررت أن تغلق الباب أمام من يريد أن يكون شريكًا حينًا، ومُشككًا حينًا آخر.
وليس غريبًا على الدولة الأردنية أن تحسم خياراتها في لحظات مفصلية. فقد فعلتها سابقًا، لا حين ضاقت الخيارات، بل حين كانت الخيارات مفتوحة على اتساعها. في 1991، فتحت المجال السياسي أمام الجميع عبر الميثاق الوطني، لكن دون أن تتنازل عن مركزية الولاء. واليوم، تعود لتقول بوضوح أشد: لا مشاركة دون التزام، ولا شرعية دون انتماء عضوي.
الدرس الذي فهمته الدولة الأردنية مبكرًا، ولم تفهمه دول أخرى في الإقليم، هو أن الفراغ في الولاء لا يملؤه التعدد، بل يفتح الباب للفوضى. التجارب العربية منذ 2011 شاهدة على أن من ساوم على هويته، خسر دولته، ومن تفاوض على سيادته، خسر مستقبله.
نحن إذًا أمام إعادة تعريف لمفهوم الفاعلية السياسية: ليست القضية بعدد المقاعد، أو بجرأة الخطاب، بل بوضوح الاصطفاف. فالدولة اليوم لم تعُد تطلب الدعم، بل تفرض الولاء كمعيار للوجود السياسي، لا كامتياز منحه الصوت أو الحشد.
هذه ليست لحظة عقاب، بل لحظة بناء جاد لمشروع وطني حديث، لا يقبل التردد ولا المواربة. من اختار الدولة الأردنية بيتًا نهائيًا، سيجد نفسه شريكًا في مؤسساتها. ومن أبقى قدمًا في الظلال، فقد حسم خروجه دون أن يُقال له ذلك صراحة.
فالمرحلة المقبلة لا تتسع إلّا لمن اختار الانتماء الصريح، والتاريخ لا يحترم المتأرجحين.
الولاء لم يعد خيارًا… بل أصبح شرطًا وجوديًا في دولة قررت أن تُغلق هامش التردد، وتفتح بابًا واحدًا فقط: باب الانتماء الكامل.