ستة وثلاثون ساعة في القاهرة .. عمرٌ في لحظة
كابتن اسامة شقمان
25-04-2025 11:57 AM
في عالمٍ تقوده السرعة وتسيّره الجداول، لا وقت فيه للهبوط الكامل. الطيار يلامس الأرض بعجلاته، لا بقلبه. لكنه في القاهرة... هبطتُ بكلِّي.
هبطتُ عصرًا، وتلك اللحظة كانت أكثر من مجرد نزول إلى الأرض، كانت عبورًا إلى بعدٍ آخر. الهواء الذي لفَّني كان مختلفًا، مشبعًا بنكهة التاريخ العتيق، مزيج من رطوبة الحكايات القديمة وحرارة الأرواح التي مرّت على هذه الأرض قبل أن تكتشف البشرية نفسها. كان في كل زاويةٍ هنا صدى لروحٍ قديمة، تتنفس عبر الأزمنة، تكاد أن تحكي قصة هذا المكان الذي لا يرضى بالفراغ.
أمامي 36 ساعة، قد تكون يومًا كاملاً، وقد تكون أقل من لحظة في زمن آخر. لا وجهة لي، ولا خط طيران يُحدد مساري، ولا خريطة ترشدني إلى دروبها.
فقط أنا، وأنا أحتضن هذا الواقع غير المحدود. مدينةٌ تعيش في كل زاويةٍ من عقلي، لا تكتفي بأن تسكنني، بل تأخذني إلى مسافات غير مرئية، تزرع في قلبي شجيرات من هويةٍ لا أستطيع التخلص منها. إنها أكثر من مجرد مكان، أكثر من مجرد جغرافيا، إنها فكرة، فكرة تتراكم عبر القرون لتصبح صرحًا من الحكايات التي لا تنتهي.
هذه المدينة ليست مجرد حجارةٍ وصخور، إنها تاريخٌ مُعاش في الهواء، هي بذرةٌ من الأزمان الأولى التي أودعت في تفاصيلها أسرار الإنسان وحكمته. منذ أول همسة عقلية للبشرية، كانت أم الدنيا هي الحاضن لهذا الوعي المتنامي. هي التي استطاعت أن تزرع الجذور في نفوس من وطأت أقدامهم أرضها، فكل حجر هنا يروي قصة، وكل زقاقٍ يحمل عبق روحٍ كانت تبحث عن ذاتها في ضوء الشمس وتحت سماء لم تتوقف عن الحلم.
المدينة لا تقبل أن تكون مجرد واجهة سياحية، هي كائن حي، تنبض بأسرارها، تعرف متى تهدأ ومتى تغلي. وعندما تمشي في شوارعها، تجد نفسك لا تسير فقط بين أبنيتها، بل بين طبقات الزمن ذاته. هناك، حيث تختلط طبقات الماضي بالحاضر، حيث لا تنتهي الأسئلة ولا تنطفئ أصداء الأفكار التي أسسها فلاسفةٌ وحكماءٌ، حيث تجد أن الفضاء نفسه ينصت إليك وكأنّه يقرأ أفكارك.
كل خطوة في هذه الأرض تحمل وزن العصور، وفي كل زاويةٍ تجد نفسك غارقًا في سؤالٍ لا جواب له، إلا أن تلك الأسئلة هي التي تصنعنا. أم الدنيا ليست مجرد عنوان جغرافي، هي أرضٌ تشع بالفكر، تحفز على التأمل، وتجعلك تتساءل عن حدود الوجود نفسه. هل هذه المدينة تُظهرك فقط كما أنت؟ أم هي ترسلك إلى أعماقك المخبأة، لتكشف لك عن مكامن كنت تظن أنها غائبة؟
في هذه اللحظات التي تتسرب فيها الأيام سريعًا، أدركت أنني لا أحتاج إلى وجهة، ولا إلى خط طيران. كل شيء في هذه المدينة هو وجهة بحد ذاته، وكل لحظة هي رحلة لا تنتهي. وعندما تغرب الشمس، تعرف أن المدينة لن تغيب عنك، بل ستبقى جزءًا منك، كالهواء الذي تتنفسه، مثل الذاكرة التي لا تتركها أبداً.
القاهرة ليست مدينة، بل كائن حي. مدينة لا تنام، لا تستريح، ولكنها تُنصت. حين تمشي في شوارعها، لا تمرّ على الحجارة فقط، بل على ذاكرة التاريخ. كل زاوية فيها هي فصل من كتاب البشرية: من الفراعنة الذين نحتوا الزمان، إلى الأزهر الذي علّم العالم، إلى الأحياء الشعبية التي ما زالت تحفظ صوت الناس، نغمة الناس، حكمة الناس.
في كل لحظة من الـ36 ساعة، كنت أهبط... لا من السماء فقط، بل من علياء وهمٍ بأن الإنسان بلا جذور. تعلمت أن الروح لا تطير وحدها، بل تهبط لتلمس نفوسًا أخرى.
سيد... مرآة الكرامة
كان أول من استوقفني في تلك المدينة سيد، رجل بسيط لكن عميق في حكمة عينيه. كان شرطي مرور يحمل اسمه بوقار، ولم يكن يرتدي بزة فاخرة ولا زيًا لامعًا، لكنه كان يرتدي وقارًا حقيقيًا، شيئًا لا يمكنك شراءه بأي ثمن. كان يبعث على الطمأنينة، ويسمح لكل من يراه بأن يشعر وكأن الحياة أقل تعقيدًا مما كانت عليه.
حين دعوني إلى شاي في بيته، لم أكن أتوقع تلك المفاجأة التي ستكون. رحب بي ببساطة وأريحية لم أعرفها من قبل. وكان أول ما قاله لي حين علم أنني طيار: "اللي بيطير فوق، مش دايمًا يعرف اللي بيحصل تحت." كانت جملته بقدر ما كانت بسيطة، بقدر ما كانت مؤلمة، فهي تلخص فلسفة حياة كان يراها الجميع أمامه ولكنه لم يتحدث عنها أبدًا. كانت لحظته وحكمته أكبر من أي تحليق في السماء.
سيد أخذني في جولة قصيرة عبر إمبابة، حيث بيته المتواضع الذي كان يحمل بين جدرانه أصداء الحكايات والتجارب. كان منزلًا صغيرًا، لكنه ملئ بدفء لا يمكن تخيله. ورغم البساطة الظاهرة، كان هناك شيء أسطوري في الجو، شيء يشعرك بأنك في مكان له طعم آخر، طعم الراحة النفسية، طعم العيش البسيط بعيدًا عن صخب الحياة. ومن هنا، كانت البداية لفهمي الحقيقي للكرم: الكرم الذي يتجاوز تقديم ما تملك، إلى تقديم ما تحتاج. كان كرمًا يتجاوز حدود الماديات، ويغرق في معاني الروح.
جلست مع سيد وأسرته، التي كانت كأنها تعكس كل جوانب الأصالة التي كان يخبئها في قلبه. زوجته كانت في غاية البساطة، لكنها كانت شديدة الجمال في تواضعها. لا جمال خارجي، بل جمال ينبع من الداخل، جمال رقيق كنسمة الصيف الهادئة. وكانت بناته الخمسة، قد تجسدن في عيونهن تلك القوة التي ورثنها من والدتهن، بلغة عيون لا تحتاج إلى كلمات. كانت كل لحظة تمر في هذا البيت تنبض بالحياة، بعطاء غير مشروط. والدة سيد كانت هناك أيضًا، تجلس في زاوية تتنفس الصبر والحكمة مع كل حركة من حركاتها. كانت لها هيبة، هيبة تخرج من عيون أم علمت أبناءها كيف يمكن للفقير أن يكون أغنى من أغنياء الدنيا، وكيف يمكن للإنسان أن يحلم بسماء لا حدود لها رغم ما يحيط به من ظروف.
عند تناول الطعام، كنت ألاحظ كيف كانوا يتشاركون كل لقمة بفرحٍ قلّما تجده في مجتمعات أخرى. لم يكن الطعام فقط وجبة تُقدّم، بل كان احتفالًا بالوجود، لحظة لإعادة شحن الأرواح بحب لا يتوقف. نظراتهم لي كانت مليئة بالأمان، وكأنهم لا يرحبون بي كضيفٍ فقط، بل كجزءٍ من عائلة تمثل الفطرة السليمة والاحترام المتبادل. كان الطعم في كل طبق لا يقتصر على المكونات، بل كان يحمل تاريخًا من الجهد والكرم والرغبة في جعل هذا اليوم واحدًا من أجمل أيام حياتي.
بعد الغذاء، اصطحبني سيد إلى المقهى الذي يتجمع فيه أصدقاؤه. كان مقهى عتيق، مليء بصخب الحياة ولكن بطريقة خاصة. جلسنا حول الطاولة التي كانت تجسد مفهوم الترابط الحقيقي بين البشر. أصدقاء سيد كانوا مختلفين عن أي أصدقاء قابلتهم في حياتي. كان الحوار بينهم مليئًا بالفكاهة، ولكن تحت هذه الفكاهة كانت هناك حكمة عميقة في كل كلمة يخرجون بها. لم يتوقفوا عن الترحيب بي، وكأنهم كانوا يفتخرون أنني زائرهم في هذا المكان الذي هو أكثر من مجرد مقهى، بل هو مأوى للأفكار وأرض للذكريات.
بعد أن انتهينا من الشاي، أصرّ أصدقاؤه في المقهى أن أزورهم في بيوتهم. كانت الدعوة تأتي منهم بلا أي تردد، بل وكأنهم يعتبرون هذه الزيارة جزءًا من الواجب، ليس لأنهم يتوقعون شيئًا، ولكن لأن لديهم إيمانًا عميقًا بأن الكرم ليس مسألة عطاء، بل هو تواصل حقيقي مع الناس، هو الاحترام الذي لا يُسائل عن المقابل. كانت نظراتهم مليئة بالمحبة، وكأنهم يفتحون لي أبوابًا جديدة لفهم المجتمع، لفهم شعب له أصالة وتاريخ طويل من البساطة والمثابرة.
تركت تلك اللحظة في قلبي أثراً عميقًا. إن هذا الشعب الذي يملك في طياته الكثير من الحكمة، يمكن أن يعلّمنا جميعًا أن الكرم ليس في ما نملك، ولكن في ما نقدم للآخرين بحب وصدق.
رجل المترو... فيلسوف الظلال
ركبت المترو بلا وجهة واضحة، لكنني شعرت وكأنني أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده. بجانبي، جلس رجل عميق الملامح، يحمل بين يديه كتبًا قديمة، وعيونًا تحمل ثقلاً من التجارب، كما لو أنه قد قرأ العالم بأسره. لم ينظر إليّ مباشرة، لكنه تحدث بصوت هادئ، يكاد يكون همسًا، وقال لي: "إنت مش بتدور على المدينة... إنت بتدور على نفسك جواها."
كلماته تلك كانت بمثابة شرارةٍ أشعلت في داخلي تساؤلات لم أكن قد طرحتها بعد. تحدثنا عن السفر، عن المكان، وعن التحولات التي يمر بها الإنسان في رحلاته. كانت أفكاره عميقة، وحكايته تتدفق كالنهر الذي عايش جميع الأراضي. قال لي بتواضع الحكيم: "المكان مش هو اللي بيتغير، إحنا اللي بنتغير وإحنا بنتنقّل." كانت هذه الفكرة تشبه قبسًا من الضوء، كأنها أجابت عن سؤال طالما كانت تؤرقني: هل نغير المكان لكي نغير أنفسنا، أم أننا نغير أنفسنا فنكتشف المكان بشكل مختلف؟
أعطاني ورقة قديمة كتب عليها بخط يده: "كلما اقتربت من الأرض، اقتربت من السماء." لم يكن كلامه مجرد حكمٍ عابر، بل كان إشراقة تعلمني كيف يمكن للإنسان أن يجد السماء في الأشياء البسيطة، في تفاصيل الحياة اليومية، في أصوات الشوارع وأصوات المترو المتنقل بين المحطات. هذا الرجل، الذي اكتسب الحكمة من سنواته التي تجاوزت الستين، كان أكثر من مجرد أستاذ متقاعد. كان يمثل ذاكرة شعب، ذاكرة أمة عريقة، شعبٌ قاد مسيرة الفكر والثقافة على مر العصور.
أدركت بعد حديثنا الطويل أن هذا الرجل كان يعيد إليّ تعريف الرحلة الحقيقية. ففي نظره، الرحلة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي اكتشاف للذات، هروب من الأنا التي نعرفها، ومحاولة للبحث عن الأنا التي نشتاق إليها، التي نأمل أن نجدها في مكان ما. كان يذكرني بي عميد الأدب العربي طه حسين، ذلك الأديب الكبير الذي كان رمزًا لفكر الأمة العربية، والذي مثل صوت المثقف العربي الذي عاصر هموم شعبه. كان هذا الرجل البسيط، في حكمته المتواضعة، يعيد لي صورة طه حسين في عمق فكره وسعة أفقه، وهو الذي ظلَّ يعبر عن هموم أمته بأسلوبه الرائع، ليصبح قدوةً للأجيال التي تلته.
هذا الأستاذ المتقاعد جعلني أرى الحياة بطريقة مغايرة، فالتعلم ليس مقتصرًا على جدران الجامعات ولا على الكتب التي تحمل أسماء كبار المفكرين، بل يمكن أن يأتي من أناس بسيطين، غير معروفين، عميقي التفكير، يحملون في صدورهم تجاربَ حياةٍ عميقة. علّمني أن الحكمة لا تكمن في القصور، بل تتواجد في زوايا العربات القديمة التي تشهد على مرور الأجيال، وعلى قصص شعوب عاشت ووهبت تاريخًا بأكمله للحياة. في كل لحظةٍ، في كل مشهد، في كل كلمةٍ كان يرددها، كنت أكتشف جزءًا من الوعي الجمعي لهذا الشعب الذي لطالما كان قائدًا للفكر العربي، قائدًا لم يكن يطلب القيادة، بل كان يقود بحكمته وبساطته.
علّمته لي حياته التي ارتبطت بتاريخ طويل، تاريخ شعبٍ ربط بين الأدب والسياسة والفكر، بين الخيال والواقع، وبين الماضي والحاضر. هو الشعب الذي على مر التاريخ حمل مشعل الحضارة، ولم يكن يقيم جدرانًا بينه وبين السماء، بل كانت السماء جزءًا منه، يتنفسها، يعيشها، ويكتب بها. شعبٌ لا يهاب التغيير، بل يرحب به، لأنه يعرف أن التغيير هو سُنة الحياة، وأنه هو السبيل الحقيقي لاكتشاف ما هو أعظم.
عندما تحدث عن الحياة، كان يبين لي أن الفهم الحقيقي للحياة لا يأتي من المال أو المكانة، بل من التواصل مع الناس، ومع الذات، ومع الأفكار التي تنبع من عمق التجربة البشرية. "كلما اقتربت من الأرض، اقتربت من السماء." كانت كلماته ترن في أذنيّ، وكأنها دعوة لكل شخص ليجد مكانه في العالم، ليشعر بوجوده كجزء من كل. في تلك الكلمات، كان الرجل يعبر عن حقيقة عميقة: أن التواضع، البساطة، والاعتراف بحجمنا أمام الكون، هي أقرب الطرق للوصول إلى معنى الحياة، بل إلى السماء نفسها.
كان هو الفيلسوف الذي لا يعترف بالظلال، بل يأخذ منها الضوء ليرشد الآخرين.
بائع الكشري... شاعر العدس والمكرونة
في حي السيدة زينب، حيث تختلط الأصوات مع عبق التاريخ، وتهيم الروح الشعبية بين الأزقة والشوارع، وقفت أمام بائع كشري بسيط. في تلك اللحظة، كانت الحياة تتنفس بهدوء، وكأن الزمان توقّف للحظة كي يتيح لي فرصة اللقاء بهذا الرجل، الذي بدا وكأنه يحمل في قلبه فلسفة لا تنتهي. نظرت إليه وسألته عن السعر، لكن إجابته كانت أكثر عمقًا من مجرد رقم، فقد نظر إليّ بابتسامة صغيرة وقال: "السؤال أهم من السعر. إسألني حاجة."
في تلك اللحظة، أدركت أن هذا الرجل، الذي لا يبدو عليه أي أثر للثراء المادي، كان أغنى الناس حكمة. لا يشغله التكسب من رزق يومه بقدر ما يشغله الفكر والتأمل في الحياة. كانت روحه الشعبية تتناغم مع كل شيء في المكان: من رائحة الكشري التي تملأ الأفق إلى زحام الناس المارين من حولنا. فكرت قليلاً ثم سألته: "ليه بنلف في دواير؟" وكانت إجابته بمثابة إضاءة داخلي، جملة بسيطة لكنها تحمل عمقًا لا يُقاس: "لأن الخط المستقيم مش طبيعي. حتى الطيارة بترجع لنقطة البداية، مش كده؟"
عندما كان يسكب العدس في الطبق، كانت يداه تتنقلان بين المكونات بعناية فائقة، وكأن كل حركة لها معنى أعمق من مجرد إعداد طعام. تابع حديثه، وكأنه يروي لي قصة حياة في كل كلمة: "العدس للثبات، المكرونة للتشابك، الحمص للمفاجآت، البصل للدموع اللي بنضحك بيها." كانت كلماته تمثل فلسفة شعبية، فلسفة تتناغم مع روح الحي وتاريخ أزقته، حيث لا يوجد شيء بلا معنى. في كل مكون كان يضيفه إلى الطبق، كان يتحدث عن أوجه الحياة، وعن التوازن الذي يجب أن يسعى إليه كل شخص في كل خطوة يخطوها.
تعلمت من بائع الكشري هذا أن الطبق الشعبي ليس مجرد وجبة طعام عابرة، بل هو عبارة عن رسالة تتحدث إلى الروح قبل أن تسدّ الجوع. الطعام في هذا السياق لا يقتصر على التغذية الجسدية، بل هو غذاء للقلب والعقل. كل مكون من مكونات الكشري يحمل في طياته رسالة فلسفية، عن الثبات في الحياة، وعن التشابك مع الآخرين، وعن المفاجآت التي تأتي في وقت غير متوقع، وعن الدموع التي قد تكون مصدرًا للضحك في لحظات الفرح.
ثم، وبعد أن بدأنا نتحدث عن بعض التفاصيل الشخصية، سألني عن عملي، فأخبرته بأنني طيار أردني أعمل في طيران الخليج، وأنني قائد طائرة. عند سماع هذا، لم يكن اهتمامه مجرد فضول عابر، بل كان هناك شيء آخر في نبرته، شيء من الاحتفاء بالاختلاف. في عالم مليء بالتشابهات، كان هذا الرجل يقدر التنوع، ويفرح عندما يلتقي بشخص يحمل قصة مختلفة، تجربة أخرى. كان يبدو كأنه يراعي الفروق الثقافية والتجارب الحياتية الخاصة، ويعترف بأن كل إنسان يحمل في داخله جزءًا من حكمة الحياة، مهما كانت مهنته أو خلفيته.
قال لي، وهو يرفع يديه وهو يحرك المكونات في الطبق: "الطيار في السماء، لكنك لا تملك السماء بالكامل. نحن هنا على الأرض، وكل واحد منا له رحلة، لكن الرحلات تتشابك، وكل واحد منا يحمل شعلة من أمل على الأرض." كان هذا الحديث بمثابة درس روحاني، درس في التواضع والعطاء، في أن الإنسان مهما ارتفعت مكانته، يبقى مرتبطًا بالأرض والناس.
في نبرته كان هناك شيء من التصوّف، شيء يجعلني أدرك أن هذا الرجل كان يعيش مع الفلسفة الشعبية بكل تفاصيلها. كان يعامل الحياة كأنها رحلة طويلة لا تنتهي، رحلات تتشابك فيها الأرواح وتتلاقى فيها الحكايات. وكان يعبر عن هذه الحكمة بمفردات بسيطة، إلا أن كل كلمة منها كانت تشعّ بحقائق عميقة. من خلال هذا الرجل البسيط، فهمت أن الفلسفة ليست محصورة في كتب الأكاديميات، بل هي تسكن في زوايا الحياة اليومية، بين شوارع الأحياء، في بائعي الكشري الذين يحملون حكمة لا تقدر بثمن.
وبعد أن انتهى من إعداد الطبق، قدمه لي بابتسامة هادئة، وقال: "كل واحد فينا عنده طبق خاص، وكل طبق له حكايته. الكشري بتاعك دلوقتي، هو قصتك." كنت أدرك أنه لا يقدم لي مجرد طعام، بل يقدم لي حياة كاملة، بأوجاعها وأفراحها، بثباتها وتشابكها، بمفاجآتها ودموعها. وفي تلك اللحظة، شعرت بأنني قد فهمت شيئًا أكبر بكثير مما كنت أتوقع.
السيدة المسنّة... الحنين المتجسد
على ضفاف النيل، حيث يلتقي الزمان بالمكان، التقيت بسيدة مسنّة تحمل في يدها مسبحة صغيرة، تتحرك بها بين أناملها في تناغم وهدوء، كما لو أن الزمن نفسه كان يمشي معها. كانت العيون التي تنظر إليّ مليئة بالحياة، رغم أن ملامح وجهها كانت تحمل آثار السنين، لكن روحتها كانت تنبض بشباب لا يقاس بالعمر. وقفت أمامها لحظة، وكأن اللقاء كان قد كتب منذ الأزل، وكأننا كنا ننتظر هذا اللقاء من زمن بعيد. ظنّتني في البداية سائحًا، ربما لم يكن لها في الحياة إلا أن ترى الغرباء على ضفاف النيل، فابتسمت ابتسامة تحمل شيئًا من الحنين وأمسكت بالمسبحة، وقالت بصوت هادئ: "كنت أظنك غريبًا، لكن يمكن إحنا كلنا غرباء في لحظة ما."
كانت كلماتها أشبه بمفتاح لمدينة من الأسرار، مدينة لا تعرف الحدود بين الحلم والواقع، بين الماضي والحاضر. تحدثت لي عن الزمن الذي مضى، عن زوجها الذي رحل، وعن الأيام التي لا تعود. كان حديثها مثل قصيدة غير مكتوبة، تجمع بين الشعر والحكمة، بين الفقد والتذكر.
وفي حديثها، كان هناك شيء عميق في تصوراتها عن الحياة والموت، عن الفرح والحزن. قالت لي بهدوء، بينما كانت تدير المسبحة في يدها: "النيل بيحكي، بس مش الكل بيسمع." كان صوت النيل الذي يصطف بجانبنا يبدو كأنّه يهمس في أذني، يحمل في طياته مئات القصص التي تُروى لأجيالٍ وأجيال، قصص عن العشق والحروب، عن الحب والفراق، وعن البشر الذين جاءوا ورحلوا، لكنهم تركوا أثرهم في المياه التي لا تتوقف عن الجريان.
أجبتها، وأنا أشعر بعمق كلامها، قائلاً: "وماذا يقول النيل إذن؟"
فأجابني بصوت يتنقل بين الحزن والفرح: "النيل يقول إننا مثل المياه، نمرّ ونتغير، ولكننا لا نختفي. نتحوّل، لكننا نترك آثارنا في كل مكان. ربما نحن لا نسمع النيل لأننا نركض وراء الزمن، ولكن إذا توقفنا قليلاً، سنسمع همساته، وندرك أن كل لحظة هي جزء من النهر الأزلي." كان كلامها يحمل في طياته رؤية فلسفية حول الحياة والموت، حول التغيير والخلود. كان حديثها عن النيل ليس مجرد إشادة بجدول مائي، بل كان تصويرًا لحياةٍ بأكملها، تسير على نفس الطريق ولكنها تتغير في كل لحظة.
ثم نظرت إليّ بعينين مشعتين بالحكمة وقالت: "إنت مش جاي تشوف القاهرة، إنت جاي تفتّش عنك فيها." كانت كلماتها عميقة، تلامس القلب كما تلامس الرياح الساكنة أوراق الأشجار. تلك الجملة كانت بمثابة صدع في جدار الزمن، تنبّهني إلى حقيقة كُنت أبحث عنها دون أن أدرك. كنت في القاهرة، ولكنني لم أكن أبحث عن المدينة نفسها، كنت أبحث عن نفسي، عن تلك الأجزاء المفقودة في داخلي، عن تلك الأسئلة التي لم أكن أملك لها إجابات. كانت هي، من خلال حكمتها، تمنحني الضوء لكي أرى نفسي في مرآة المدينة التي كنت أظنّها غريبة عني.
حدثتني كثيرًا عن الحياة وعن فقدان الأحباء. تحدثت عن زوجها الذي رحل، وعن كيفية تعلمها العيش مع الفقد، وكيف أن الذاكرة هي الملجأ الأخير في وجه الزمان. قالت لي: "الناس لا يرحلون، هم فقط يختفون عن نظرنا، لكنهم يعيشون في الذاكرة، في كل كلمة كانت لهم، وفي كل لحظة قضيناها معهم. أنا أعيش مع زوجي في ذاكرتي، وأنت، ستعيش مع هذا المكان في ذكرياتك." كان حديثها عن الفقد، عن الغياب، مُثلَجًا بالحكمة التي لا تأتي إلا من شخص مرّ بتجربة عميقة، لكنه لم يَترك لها الألم أن يغلبه.
سألتها، في تلك اللحظة، عن سر الصبر الذي كانت تحمله في قلبها رغم سنوات عمرها الطويلة، فأجابتني بتأمل عميق: "الصبر ليس شيئًا يُكتسب، بل هو شيء يأتي من القبول. عندما تقبل الحياة بما فيها من أحزان وأفراح، وعندما تقبل أنك لا تملك كل الإجابات، يصبح الصبر طريقك. الحياة ليست شيئًا نتحكم فيه، بل شيء نعيشه ونحتفظ به في قلوبنا كما تحتفظ المسبحة بخرزاتها." كانت هذه الكلمات تشبه صدى، يرن في الداخل ويمنحني شعورًا بالسلام. كنت أسمع كل كلمة وكأنها جزء من درس عميق في الحياة.
لقد كانت لحظة لم أكن أستطيع الهروب منها. كان حديثنا ممتدًا لمدة ساعة كاملة، كما لو أننا كنا في رحلة من التأملات التي لا تنتهي. لم تكن السيدة مجرد مسنّة تبيع المسابح، بل كانت معلمة في مدرسة الحياة. علمتني أن الأيام لا تعود، لكن لحظاتها تظل حية في قلوبنا. علمتني أن القاهرة ليست مجرد مدينة، بل هي مرآة لكل من يسكنها، مدينة تحمل كل الحكايات في طياتها، وكل الزمان في لحظات صغيرة.
عندما رحلت عنها في نهاية حديثنا، شعرت وكأنني كنت قد ارتويت من ماء عذب، ماء حكمة لا يمكن العثور عليه في الكتب أو بين صفحات التاريخ. كانت هي تاريخها الشخصي، وكانت المدينة تاريخها الكبير، لكن حكايتها لا تنتهي، بل تبقى تُنسج في الذكريات التي لا تغادر.
حكمة الرحلة
من كل شخص، خرجت بحكمة:
•سيد: الكرامة في البساطة، والعطاء لا يُقاس بالوفرة.
•فيلسوف المترو: نحن لا نُسافر في المكان فقط، بل في داخلنا.
•بائع الكشري: الحياة أكلة معقّدة، ولكنها لذيذة حين تفهم مكوّناتها.
•السيدة العجوز: الزمان لا يرحل، هو فقط يغيّر شكله.
العودة... مختلفة
ما أجمل أن تُختَتَم الرحلة بما يُشبه ولادة ثانية.
عدتُ إلى مقصورة القيادة. نفس المقعد، نفس الأزرار التي حفرتها أناملي ألف مرة، نفس الأضواء التي كانت توحي بالتحكّم والسيطرة. ولكنني هذه المرة لم أكن ذاتي القديمة. شيء ما تغيّر.
نظرتُ من النافذة، فرأيت السماء لا كما اعتدتها… بل كصورة باهتة أمام عمق الأرض. قلت في داخلي:
"السماء لم تكن أعلى من الأرض. نحن فقط نُحلّق، لأننا نجهل أن الهدوء يولد من الهبوط، وأن الحكمة لا تُقاس بالارتفاع، بل بالانغماس في تفاصيل الأرض والناس."
ستة وثلاثون ساعة. لا، لم تكن مجرد وقت مضغوط داخل جدول رحلة.
كانت أشبه بنبض حياةٍ جديد، بتقويم مختلف، كأن الزمان قد تشقّق ليخرج لي من داخله حكمة عمر.
قابلتُ فيها أربعة أشخاص، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا فقط أربعة.
لقد كانوا رموزًا… أرواحًا تمشي على الأرض، نُدبًا من نور، تجسيدًا لفصول أربعة:
الكرم، التواضع، التأمل، والحنين.
كل واحد منهم لقّنني درسًا دون صوت.
كل لحظةٍ معهم كانت مرآةً أمامي، لم تعكس وجهي، بل نفسي التي غفلت عنها طويلًا.