حين تتكلم الدولة باسم الذاكرة والكرامة
أ.د احمد منصور الخصاونة
29-04-2025 05:10 PM
في زمنٍ تهاوت فيه المسلّمات، وغرقت فيه الحقائق في مستنقع التضليل، يُطلّ علينا دولة الدكتور عبدالرؤوف الروابدة كمنارة لا تنطفئ، تذكّر الغافلين بما نُسِي، وتعيد ترتيب الوعي الوطني فوق أنقاض الخطابات المرتعشة، التي استبدلت الانتماء بالمجاملة، والتاريخ بالمناورة. ليس مجرّد شاهدٍ على العصر، بل هو فاعلٌ في تشكيله، ومنقّبٌ عن الحقيقة في دهاليز الذاكرة القومية، ينقّب عنها لا ليستعرضها، بل ليبعثها حيّة في زمن التكلّف والادّعاء. في حضوره، تُستعاد الأردنية بمفهومها الأصيل: فكرة لا تقبل الاختزال، ومشروع لا يليق به التنازل.
سواء خطب في جاهة، أو ارتقى منبرًا في نادٍ ثقافي او انتدى في منتدى، أو حاور في مجلس عام، فإن صوته يعلو لا ليستعرض بلاغته، بل ليوقظ الوعي من سباته، ويحرّك في الناس شوقًا إلى سردية لم تُكتب في مكاتب العلاقات العامة، بل نُقشت في ذاكرة الأرض، وسُقيت بدماء الذين صدقوا ما عاهدوا عليه. يحملها دائما على عاتقه رواية "السردية الأردنية في ظل التحولات الإقليمية"، لا بوصفها محاضرة أكاديمية، بل بوصفها وثيقة وطن، ووصية تاريخ، وخارطة طريق في زمن تعذّر فيه الاتجاه. فالأردن الذي يتحدث عنه دولة أبو عصام ليس دولة عابرة أو كيانًا مفروضًا، بل هو استمرارية لرسالة كبرى، نمت جذورها في تربة الثورة العربية الكبرى، وتفرعت أغصانها في ميادين العروبة.
يمتاز هذا الرجل الاردني الاصيل بصلابة الموقف وصفاء الرؤية، لا يستجدي تصفيقًا، ولا يهادن في ما يرى أنه حق. يعيد إنتاج التاريخ لا بعيون الندم، بل بعقلية التحليل، وجرأة المراجعة، وصدق التبصّر. فحين يُذكّر بأصول التكوين الأردني، فإنه لا يبحث عن شرعية تائهة، بل يعيد تثبيت حقيقةٍ تُراد لها أن تُنسى، ويجدد عهدًا مع هويةٍ تتعرض يوميًا للتشويه والاختراق.
لأنه ابنُ المشروع العروبي، نشأ وترعرع على قيمه، فكانت كل حوارتة يرفض اختزال الأردن في جغرافيا ضيّقة أو وظيفة سياسية طارئة. الأردن، في وعيه، هو قلبٌ نابض بقضية الأمة، وحارسٌ أمينٌ على إرثها، وصوتٌ عقلانيٌّ في وجه الضجيج الإقليمي الذي أضاع البوصلة. يُحاور التاريخ لا ليأسره في لحظة مجدٍ ماضٍ، بل ليُعيد تفعيله في مواجهة الحاضر والمستقبل. يستنطق معارك التحرير، ويُعيد رسم خريطة الدم العربي في كل الساحات، لا ليُفاخر، بل ليُحمّل الأجيال مسؤولية الاستمرار على ذات النهج.
والأردن، في هذا الوعي، ليس مجرد وطنٍ على خارطة، بل رسالة، ترعاها قيادة هاشمية ضاربة الجذور، تستمد شرعيتها من النبوة، وتستبطن في مشروعها روح الاعتدال والعروبة. هي القيادة الشرعية التي ورثت الحكمة والسيادة من جدّها عليه أفضل الصلاة والسلام، فكانت صمام الأمان ودرع الأمة وسندها في الملمات.وإن كان الزمان قد أفرغ المنابر من أصحابها، ومن هذا المزيج تتولد القوة الأخلاقية والسياسية التي جعلت من الأردن رغم التحديات الكبرى، رقماً صعباً في معادلة الإقليم، وصوتاً للاتزان في زمن التهافت.
وبقي دولة الروابدة على العهد: صادقٌ في نُطقه، مهيبٌ في حضوره، قريبٌ من الناس دون مواربة، وراسخٌ في رؤيته كجبال عجلون وجرش والطفيلة التي تأبى الانحناء. يرى في الدولة الأردنية مشروعًا حضاريًا لا يُقاس بعمر الزمان، بل بمقدار ما تحمل من أمانة التاريخ وهمّ المستقبل. دولة لا تفرّط بالهوية، ولا تنحني لرياح العابرين، بل تقف، كما أرادها الآباء المؤسسون، ثابتةً على صخرة الشرعية، عصيةً على التشظي، صادحةً باسم العدل والحرية والانتماء.
ليس كثيرًا على الوطن أن يعتزّ بأمثاله؛ أولئك الذين لم يبدّلوا تبديلاً، ولم يُبدّدوا الرؤية في ضباب المصالح الآنية. فهؤلاء هم ذخيرتنا حين تضيع الأصوات، وهم حجّتنا حين يُساءُ الفهم أو يُفتعل الخلاف.
هكذا يتحدث الروابدة... لا بكلماتٍ منمقة، بل من قلبِ رجلٍ عاش التجربة، وصنع القرار، ووقف على تخوم الحريق دون أن تحترق يده أو تُساوم بوصلته. أبا عصام، دمت شاهدًا على النقاء، وناطقًا باسم الفكرة حين تسكت الأصوات، ومدافعًا عن الاردن العروبة الذي لم تساوم يومًا، ولم يستكن مهما اشتدّ الحصار.