في جرش، حين يهدأ النهار، ويبدأ الضوء بالانسحاب من فوق الحجارة القديمة، تصير الأصوات أبطأ، والذكريات أقرب.
كان يجلس تحت شجرة المشمش الكبيرة، لا يتحدث كثيرًا. كلماته كانت قليلة، لكنها كانت بثقل الصمت حين يكون أبلغ من الكلام. شجرة المشمش كانت قديمة، ولربما هي أكبر أشجار المشمش في المحيط. تحتها كان يجلس، ويقلب حبّات المسبحة بين يديه، ليس تديّناً فقط، بل عادة. عادة رجل اعتاد أن يضع لكل شيء عدّادًا داخليًا. للصبر، للزمن، للألم.
خلفه كانت تنمو نبتة الكالونيا. خفيفة، ناعمة، أوراقها تميل للفضّة في ضوء الغروب. يحبّها، لا لأنها جميلة فقط، بل لأنها لا تشتكي. تعيش في تربة قاسية، لكنها تظل خضراء. وكان يقول: “الناس مثلها. اللي بعيش في هالأرض، ما لازم يتدلّل.”
البيت في جرش ليس كبيرًا. لكنه واسع بما يكفي للذكريات. من شرفته ترى المدينة الأثرية، الأعمدة التي وقفت رغم الزلازل والحروب، وترى خلفها جبال عجلون، حيث تغرب الشمس كأنها تستريح في حضن الوطن. وفي الأفق، هناك شيء لا تراه العين بوضوح، لكن القلب يعرفه: فلسطين.
كانت أمّي تظهر من حين لآخر، بهدوء يشبه صوتها، حاملةً فنجان قهوة، أو تنحني لتقطف ورقة يابسة سقطت من الياسمينة. لم تكن تقول كثيرًا، لكنها كانت تعرف كل شيء. تحرس البيت بصمتٍ يعرف كل شيء، وتسكب الماء كمن يعيد للزمن توازنه. كان يرفع بصره نحوها حين تمر، وفي عينيه نظرة رجل وجد في صبرها وطناً صغيرًا إضافيًا.
كان يشير بيده نحو الأفق أحيانًا، لا بالكلام، بل بالنظر. ثم يسحب نظره ويعود إلى الكرسي، كأنه يقول: "مش وقته الحكي."
في سنواته الأخيرة، صار يمشي أبطأ. لكنّه لم يتوقف. يخرج إلى الحديقة في الصيف، حين يكون ظل المشمش أكثر عمقًا، والهواء مشبعًا برائحة الياسمين، ويتأكد أن نبتة الكالونيا لا تزال بخير، أن الياسمينة لم تجفّ، أن المشمش نضج. وكان يقول لي أحيانًا، دون أن ينظر إليّ مباشرة: “الدنيا ما بتنتهي، بس بتتغيّر.”
ثم، في أحد الأيام، لم يخرج إلى الظل. وظل الكرسي ينتظر، كأنّ الجلوس فيه دون حضوره خيانة.
لكن غيابه لم يكن انحناءً، بل وقوفًا أخيرًا أمام الحياة. رحل كما عاش: في صمت، وفي وقار. ظلّ منتصبًا في الذاكرة، كما الشجرة التي لم تنكسر.
ظننت أن الحياة ستتوقف، لكنها لم تفعل. بل استمرت... ناقصة، كأن شيئًا كبيرًا قد سُحب من المكان، وبقي الهواء يدور حوله ولا يملأه.
أجلس مكانه أحيانًا. تحت نفس الشجرة. ألمس جذعها، وأفكر كيف يمكن لرجل أن يرحل، ويبقى بهذا الوضوح.
لا أبكي. تعلمت أن الرجل الذي يُحب شيئًا لا يبكيه، بل يحمله معه، حتى النهاية. وأعرف الآن، كما كان يعرف هو، أن الأردن ليس حدودًا على الخريطة، بل بيتٌ له شرفة على الحنين، وفنجان قهوة تحضّره أمّي، وظل شجرة، ونظرة نحو فلسطين لا تخفت، وياسمينة عند الباب، ونبتة كالونيا خضراء تنمو بإصرار عند الجدار.
وأدرك الآن أن ظله لا يزال هنا، كما ظلّ الشجرة... ظلّه.