facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الخليل .. المدينة التي تمشي على شظايا الروح


كابتن اسامة شقمان
08-05-2025 11:09 PM

في صباحٍ لم تشرق فيه الشمس، بل انسحبت من السماء كمن يعتذر عن الغياب، توجهتُ جنوبًا... نحو مدينة لا تُزار للسياحة، بل تُحجّ إليها للوجع.

الخليل ليست مدينة، بل مرآةٌ مكسورة يرى فيها الإنسان هشاشته الوجودية. حين وصلت، لم أشعر بالغربة... شعرت أنني عدتُ إلى جرحٍ قديم في داخلي لم أكن أعرف أنه ما زال ينزف.

الزمن في الخليل ليس شيئًا يُقاس بالساعة، بل بالنبض المتسارع أمام بوابة عسكرية، وبالدمعة التي تتراجع خجلاً كي لا تُتهم بالضعف.

حين وقفت أمام الحرم الإبراهيمي، لم أرَ مَعْلمًا دينيًا، بل رأيت قلبًا مقسومًا نصفين، كما تُقسّم الضمائر في زمن الاحتلال.

الحجارة هناك لا تُخبرك بالتاريخ، بل تهمس لك أن التاريخ بكى كثيرًا قبل أن يُكتب.

سألت إبراهيم عليه السلام، بصمتٍ داخليٍّ موجع:

"هل تسمعنا من أعماق الغياب؟ هل رأيت كم هو العالم أعمى أمام الضوء الذي دفنته هنا؟"

لم يُجبني، لكن الهواء ارتجف... وربما كانت تلك الإجابة الوحيدة الممكنة.

في الخليل، لا تسبقك خطواتك، بل شكوكك. تُفتَّش الأرواح قبل الجيوب، وتُقاس الكرامة بعدد المرات التي لم تُصفَع فيها.

الجنود لا يحرسون شيئًا... بل يتكئون على فراغهم.

يمشون فوق أرصفة الذاكرة كما يمشي أحدهم على زجاج مكسور: كل خطوة تترك أثرًا من الألم، لكن التوقف ليس خيارًا؛ لأن الموت البطيء أشد رعبًا.

الخليل ليست منقسمة جغرافيًا فقط، بل وجوديًا. جزء منها ما زال ينبض رغم الرصاص، وجزءٌ آخر يحتضر على أرصفة الانتظار، أما الجزء الأخير، فقد اختار أن يصمت لأن الصراخ صار رفاهية لا يملكها.

البائع الصغير – حكمة الطفولة تحت القيد

كان الطفل يقف قرب السوق القديم، يحمل علبة علكة كأنها قمرٌ صغيرٌ يوزع النور على العابرين.

سألته: "ألا تذهب إلى المدرسة؟"
فأجابني، بابتسامة فيها ما يكفي من الحكمة لإرباك الفلاسفة:

"مدرستي اسمها حاجز ١٨... أتعلم فيه كيف أبتسم للجندي كي لا يُفتشني، وكيف أختصر أحلامي لتناسب جيبي الصغير."

ابتسمت له، لكن قلبي ارتطم بالحجارة.

في مدن مثل الخليل، الطفولة ليست مرحلة... بل معركة تُخاض كل صباح.

الأرملة وباب الخيبة

مررت بجانب بابٍ خشبيٍّ متآكلٍ من كثرة الانتظار، فوقه ملصقات قديمة وصمتٌ أكثر قسوة من الموت.

جلست خلفه امرأةٌ تجاوزت السبعين، كانت تطرّز اسم ابنها الثالث على منديلٍ أبيض.

قلت لها: "هل ما زلتِ تؤمنين بالسلام؟" أجابت دون أن ترفع رأسها:

"السلام؟ لقد دفنته مع ولدي الثالث. أنا لا أؤمن بشيء بعد الآن... فقط أطرّز الذاكرة."

ثم أضافت: "أغلقنا أبوابنا حين أدركنا أن القادم لن يحمل سوى الخذلان." في الخليل، هناك أبوابٌ لا تُغلق خوفًا من الغرباء، بل لأنها تعبت من استقبال الأمل الكاذب.

الشيخ الذي يسكن ظل الحرم

دخلت الحرم الإبراهيمي من بوابته الحديدية المشروخة، وداخل الجناح المقطوع من قدسيته، التقيت شيخًا جاوز السبعين، يجلس عند الزاوية التي تفصل الجدران كما يفصل الاحتلال بين الإيمان والحرية.
كان يحمل مصحفًا قديمًا بيد، ومسبحةً تتلو معه نبض قلبه.
سألته: "كيف تحتمل كل هذا التقسيم؟"

أجابني:
"نحن لا نحتمل... نحن نُختبر. كل صلاةٍ هنا عبورٌ فوق جسرٍ من العذاب، لكننا نصلي لأننا ما زلنا نؤمن أن الله لا يحتاج لتصاريح عبور."

نظرت إليه، فشعرت أن كلماته تضيء الغرف المظلمة في داخلي. في الخليل، حتى الصلاة تحتاج شجاعة... لكن الإيمان لا يُقسم بجدار.

إلى أبنائي، إلى أحفادي، وإلى كل من تصل إليه هذه الكلمات:

الخليل ليست حكاية نرويها، بل اختبارٌ أخلاقي لمن ما زال يملك قلبًا.

مدينة لا تُريك كل وجعها دفعة واحدة، بل تهمس لك: "هل تستطيع أن تنظر إليّ دون أن تبكي؟" وحين هممت بالمغادرة، لم أودّعها، بل اعتذرت منها.

قلت لها: "أيتها المدينة التي تمشي على الزجاج...
أنت لستِ مكانًا، بل مرآة للإنسانية.

وأنا آسف... لأننا حين وقفنا أمامك، رسبنا جميعًا."





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :