في منزلنا، لم يكن أحد يتحدث كثيرًا عن الأردن، لكن كل شيء كان يدل عليه. لم يكن الأردن شعارًا، بل طقسًا نعيشه دون أن نعلنه، كأن البلاد تسكن في العادات، لا في الكتب.
كبرنا والبلاد تتسلل إلى أرواحنا بلا خطب ولا شعارات. رأيناها في موسم الزيتون، في دكاكين الحارات، في صباحات المدارس حين نردد السلام الملكي ولا نفهم كلماته، لكن نشعر به. الوطن الحقيقي لا يُختزل بخط أسود على الخريطة، ولا بأرشيف النشرات الرسمية. إنه الحضور الخفي في الأشياء الصغيرة، في الحكايات التي تُروى بعد العشاء، في الطرق التي تحفظ أقدامنا أسماءها دون لافتات.
الأردن ليس شكلًا واحدًا ولا صوتًا واحدًا، بل تعددٌ يجعل الانتماء إليه فعلًا أخلاقيًا لا بيولوجيًا. وطن يتسع لاختلافنا، ويمنحنا ما يكفي من الظل لنكبر بلا خوف. وطن لا يخشى أن نكون فيه متنوعين، بل يزدهر بتنوعنا.
إن الأوطان لا تُبنى بالحدة، ولا بالفرز بين من "ينتمي" ومن "يستحق"، بل بالتسامح. بالتربية على قبول الآخر لا نفيه، وبالتواضع أمام ما لا نفهمه لا بمصادرته. الوطن ليس عقيدة سياسية، ولا انتماءً مؤسسيًا جامدًا. الوطن لمن يحبّه، لمن يمدّ يده في الصباح ليزرع شجرة، لا لمن يرفع راية ليتباهى بها. لا أدلجة في الأوطان، لأن الوطن إن ضاق بعقيدة، ضاق بأبنائه.
نحتاج أن نعيد تعريف التربية الوطنية: أن تُولد في المنزل، حين يرى الطفل أباه لا يختلس من المرافق العامة، وأمه تُحسن لجارتها. أن تتأكد في المدرسة، لا عبر الحصص المقررة، بل عبر السلوك، في طابور الصباح، في عدالة المعلم، في نظافة الممرات. وأن تُصقل في الجامعة، حين يتعلم الطالب أن الحوار لا يقل أهمية عن المنهاج، وأن من يخالفك الرأي ليس خصمًا بل مرآة. أما المؤسسات، فيجب أن تكون هي الأخرى مؤسسات مواطَنة، لا أدوات هيمنة. أن يشعر فيها الموظف أن عمله ليس وظيفة، بل جزء من بناء البيت الكبير.
الهوية الوطنية لا تُبنى بنشرات الأخبار، بل بالقصص التي يرويها الناس لبعضهم؛ بالحافلة التي تنتظر الراكب الأخير، بالسائق الذي يعيد الباقي دون أن يُطلب منه، بالعامل الذي ينظف الشارع كما لو أنه فناء منزله. أن يشعر الجميع بأن هذه البلاد تتسع لهم، لا تتربص بهم.
وحين تسأل طفلًا: "ما معنى أن تكون أردنيًا؟"، لا نريده أن يجيبك بنص محفوظ، بل أن يبتسم ويقول: "يعني أن أشبه أهلي، وأحترم جاري، وأحلم لمكاني." حينها فقط نكون قد بدأنا نزرع الوطن كما يُزرع الزيتون: صبورًا، عميقًا، وعابرًا للأجيال.
لم يكن والدي شاعرًا ولا سياسيًا، كان يزرع الصمت في زوايا البيت كما تُزرع شجرة الرمان في الباحة: ببطء، وبثقة، وبمحبة لا تحتاج إلى إعلان. قال مرة: "نحن لا نختار أوطاننا، لكنها تختار طريقة لتسكن فينا." واليوم، بعد أن غادر بصمته، أراه يُدفن في تراب قريته كما يُردُّ الحجر إلى قوسه، مستقرًا في مكانه الأخير الذي لا يكتمل البناء إلا به. ما زلت ألمحه في تراب الحديقة، في زجاج النافذة، في الطريقة التي أرتب بها أوراقي عند الفجر.
الأردن ليس ما نقوله عنه في الخطابات، هو ما نكف عن قوله لأنه أصبح من بديهيات الروح. وطن لا نحتاج أن نشرحه إذا كنا نعيشه. وطن يُشبهنا حين نُشبهه.
وها هو منزلنا، المطلّ على آثار جرش، ما زال واقفًا يرقب الغروب فوق جبال عجلون، يلتقط أطراف الشمس من الأفق الفلسطيني، ويرتبها برفق في صدر الغرفة. هناك فقط، نفهم أن الوطن لا يُبنى بالحبر، بل بالحنين. لا يُروى بالخطب، بل بالعائلة، بالعشب النابت على العتبة، وبذكرى الذين مرّوا من هنا، فتركوا الوطن وراءهم حيًّا فينا.