الهوية حين تستقرّ تصبح قُرّة العين للأمة
د. جاسر خلف محاسنه
09-06-2025 10:21 PM
في المسافة الفاصلة بين الحلم والواقع، تتقدّم الدول بهدوء، تترسّخ في الأرض كما تترسّخ المعاني في الذاكرة، وتعيد تشكيل حضورها السياسي من خلال وفائها لصوت داخلي قديم.
الأردن، الذي وُلد من رحم الثورة العربية الكبرى، ما زال يحتفظ بذلك الصوت ؛ صوت العروبة الواعية، العميقة، الباحثة عن مكان مستقرّ للهوية في خريطة تتغيّر بسرعة مذهلة.
حين نُعيد التوقف عند فكرة الثورة العربية الكبرى، يتجلّى أمامنا احتمال تاريخي ناضج ينمو في عمق الزمان، فضاء حضارياً تتداخل فيه جذور الأرض والروح. الثورة تُمثّل حالة سلام داخلي، طمأنينة تبلورت في وجدان الأمة، ووعود تتنفسها الأرض.
بهذا المعنى، تتحول الثورة إلى لغة التوازن الإقليمي، ترتكز على أُسس ثابتة من الجذور، المصالح، والهوية الثقافية، فتحتضن الجميع في أفق عربي يتسع كما السماء.
حمل الأردن هذا المعنى منذ اللحظة الأولى، إذ شُكّل كنبع مستمر من إرث الثورة، مشروع يصوغ أمة تنهض بكرامة الذات، توحد حضورها في عالم يتطلب الثبات والمرونة معاً.
وسط عواصف سياسية ورياح متغيرة، تشكّلت الدولة الأردنية، وبقي الأردن ينبض بتلك الروح التي تلتقي مع الجيران كامتداد طبيعي، عابر للحواجز.
اليوم، تعود الثورة بقوة، كطموح متجدّد يحث على بناء أطر جديدة للفهم والعمل، ترتكز على المشاركة الحقيقية، وتعاضد المصالح في بيئة إقليمية معقدة.
في قلب هذه اللحظة، يبرز الأردن كدولة صغيرة بحجمها، كبيرة بحكمتها، حريصة على تثبيت دعائم الاستقرار، وتنمية مفهوم الدولة ككيان يتنفس تنوعه ويتعايش مع تحدياته.
تُضيء الحاجة إلى مراجعة التفكير القومي، ليصبح أعمق وأشمل، يتجاوز حدود الشعارات، وينفتح على أدوات عملية لتقاطع المجالات الحيوية: الطاقة، التعليم، المياه، والأمن، إلى جانب الثوابت الثقافية التي تُغذّي الروح العربية المتجددة.
في هذا السياق، تتألق الهوية الأردنية عبر مزيجها الفريد من التاريخ والحياة، تجمع بين البداوة والمدينة، بين الجذور والحداثة، مما يجعلها تجربة إنسانية فريدة تزرع الأمل في حقل التنوع.
ينبع الاستقرار الذي تنشده الدولة من هذه الموازنة، ومن قدرة المجتمع على احتضان ذاته بكل ألوانه، كمجتمع يعيش فيه الاختلاف حكاية وحدة، سببًا للتلاقي.
يمتلك الأردن من الرصيد الأخلاقي والسياسي ما يؤهله لأن يكون حجر الزاوية في أي بناء عربي جديد، حاملاً شعلة الاستمرارية والحوار، مؤمناً بأن نسيج الاستقرار الداخلي مرهون بنسق عربي شامل متكامل.
حين تستقرّ الهوية بهذا العمق، تتحول إلى سلام داخلي يشعّ طمأنينة على الأمة، يسكن في خطوات القيادة، في نبض المؤسسات، وفي خطابات تجمع بين العروبة والكرامة، السيادة والانتماء، بصوت موحد وملتزم.
تتحول الدولة إلى قُرّة عين أمتها حين تجيد الإصغاء لتاريخها كمرآة تنير درب المستقبل، وتحتضن المستقبل كحلم يتجدّد دون هروب أو إنكار.