طبيب القلوب، الذي لم تفتنه المناصب
د. صخر النسور
14-06-2025 05:50 PM
لا يُقاس الرجال بعدد المناصب التي تقلدوها، ولا بعدد المرات التي اعتلت فيها أسماؤهم لافتات الوزارات أو قاعات البرلمان أو مقاعد الأعيان، بل يُقاسون بصدقهم مع أنفسهم، وبمدى تصالحهم مع فطرتهم الأولى، وهنا يبرز اسم الدكتور عبدالرزاق النسور، كقصة لا تشبه غيرها، كقلب كان له أن يضخ الطيب أينما حل، لا الدم فقط.
أبو خالد، كما يحلو للناس أن ينادوه، لم يكن يوماً ساعياً خلف الأضواء، ولا ممن ارتدوا عباءة العمل العام ليتاجروا بها في أسواق الوجاهة والمصلحة، بل كان الطبيب الذي بقي طبيباً، حتى وهو وزير، وكان الإنسان حتى وهو عين ونائب ورئيس بلدية لثلاث دورات متتالية، فلم تغره المقاعد الوثيرة، ولم تُنسِه الهتافات العالية أنه خادم للناس لا سيداً عليهم.
منذ عرفه الناس وهو الوجه البشوش، القلب الصادق، اللسان الرطب بذكر الخير، يهرع إلى الملهوف قبل أن يُستغاث، ويشعر بوجع المحتاج دون أن يُقال له، وكان ديدنه أن لا يرى في المناصب إلا وسيلة لفعل الخير، لا سلماً للارتقاء فوق الناس، ولا باباً لتمكين الذات.
أجمل ما في هذا الرجل، أنه كسر القاعدة التي تقول إن السياسة تُفسد النفوس، وإن العمل العام يُتخم القلب ويقسو، فقد خاض كل الميادين وبقي كما هو، نقيّ السريرة، نظيف اليد، رقيق الشعور، لم يتبدل ولم يتلون، لم ينكث وعداً ولم يخن عهداً، بل ظل وفياً كما يُحب الله لعباده أن يكونوا.
في زمنٍ كان بعضهم يبيع الوعود ويشتري بها أصوات الناس، كان أبو خالد يزرعها دون حساب، ولا ينتظر موسماً للحصاد، وكانت يمينه تعمل في صمت، لا تدري بها يساره ، وكان إنجازه صامتاً إلا من الدعوات الصادقة التي خرجت من أفواه الناس وقلوبهم معاً، فأحبوه، وتمنوا له الخير كما تمنى هو لغيره دوماً.
ورغم كل ما تقلده من مناصب، بقي كما هو، لا تحرسه الحواجز، ولا يحجبه حاجب، بيته مازال في حي السلالم، لم يتغير مدخله، ولا ازدادت جدرانه عُجباً وتكبراً، وكأن الزمان قد توقف عند بساطة الطينة الأولى التي خُلق منها، وكأن المكان رفض أن يخون صاحبه ويشبه من باعوا الناس بثمنٍ بخس.
كان أبو خالد الطبيب الأقرب للقلوب، ليس من باب المهنة فقط، بل لأنه كان يعالج النفوس قبل الأجساد، ويبتسم في وجه الألم حتى يخجل الوجع من نفسه وينسحب، وكان إنساناً قبل أن يكون طبيباً، وهذا اللقب وحده يكفيه، "الطبيب الإنسان"، ذاك اللقب الذي لم يكن يحب غيره، ولم يتزين يوماً إلا به.
ما عرف أحد عنه أنه طارد مكسباً شخصياً، أو سعى إلى منفعة لجهة أو عشيرة، بل كان يرى أن من تبوأ مكانة بين الناس، عليه أن ينسى نفسه قليلاً ليعيش لغيره كثيراً، وكان يصدق القول، يفي بالعهد، يسامح الزلة، ويترفع عن الصغائر كما يليق بالكبار حقاً.
وها هو اليوم، يسير على خطاه دعاؤنا له بالشفاء والعافية، ويورّث أبناءه الخُلق قبل اللقب، والطيب قبل الجاه، ويكفيه فخراً أن الله أحبّه، فحبب فيه خلقه، وأنبت من صلبه فرعاً طيباً يحمل عبق الأصل ونقاء الرسالة.
الطبيب الإنسان، عبدالرزاق النسور، سلامٌ عليك ما بقي في القلوب وفاء، وما بقي في الناس مَن يعرفون الرجال بقلوبهم لا بألقابهم.