هي حرب "استنزاف اقتصادي" أيضاً (2-2)
24-06-2025 04:15 PM
تدخل الحرب بين إيران ودولة الاحتلال مرحلة غير مسبوقة من التصعيد، تتجاوز حدود المواجهة العسكرية إلى صراع استنزاف اقتصادي واسع النطاق، يمتد أثره إلى ما هو أبعد من حدود الجغرافيا. فهذه الحرب، التي تدور في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية لإمدادات الطاقة والتجارة العالمية، لا تقتصر كلفتها على الجبهات القتالية، بل تلقي بظلال ثقيلة على الأسواق، والنمو، والاستقرار المالي، وميزانيات الدول. وفي ظل التداخل بين الجغرافيا الاقتصادية والسياسة الإقليمية، يبدو أن هذه المواجهة ستعيد رسم التوازنات في المنطقة، وقد تشعل سلسلة من الأزمات في أسعار الطاقة والتضخم والاستثمار، لا تمس أطراف النزاع وحدهم، بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي بأسره.
فكلفة الحرب تقدر بين إيران ودولة الاحتلال بنحو مليار دولار يوميا لكل طرف، ومع استمرارها لفترة أطول قد تصل لكلف عالية جدا (الكلفة الإجمالية 150 مليار دولار لثلاثة شهور يعادل تقريبا 36% من الناتج المحلي لإيران وربع الناتج المحلي لدولة الاحتلال)، ما يعني أن الحرب لا يمكن أن تستمر دون أن تترك أثراً عميقاً طويل الأمد في الاقتصادين. في المقابل، تبقى أسواق النفط هادئة نسبيا رغم وقوع الحرب في منطقة مسؤولة عن %30% من إنتاج النفط العالمي و17% من إنتاج الغاز. فقد استقر سعر برميل النفط عند 74 دولارًا تقريباً، وهو ما يعكس استقرار العرض من دول مثل السعودية والإمارات وروسيا، ويقلل من تأثير الحرب على المدى القصير. لكن، إذا ما تطورت المواجهة إلى تعطيل طرق الملاحة في مضيق هرمز أو استهداف منشآت نفطية في الخليج، فإن الأسواق ستواجه اضطرابًا كبيرًا، مما قد يدفع الأسعار إلى مستويات تتجاوز 100 دولار، ويؤثر على النمو العالمي.
بالنسبة للغاز الطبيعي، فالتطورات الأخيرة تشير إلى أن هذه الحرب قد تتسبب في اندلاع أزمة غاز عالمية، خصوصًا في أوروبا. فقد ارتفعت أسعار الغاز هناك بنسبة تقارب 15%، بما يعادل 4 دولارات إضافية لكل مليون وحدة حرارية. وتلوح في الأفق تحذيرات من أن الأسعار قد تقفز إلى 25 دولارًا في حال تعطّل مرور الغاز عبر مضيق هرمز، وهو ما قد يضع أوروبا أمام أزمة طاقة حادة خلال ذروة الشتاء المقبل. فمنذ وقف الاعتماد على الغاز الروسي، باتت أوروبا تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي المسال القادم من دول الخليج، والذي يمر معظمه عبر المضيق. أما على مستوى التخزين، فلا تبدو الأوضاع مطمئنة، إذ لا تتجاوز مستويات تخزين الغاز في ألمانيا - أكبر اقتصاد أوروبي - نسبة %49% فقط، وهي نسبة مقلقة إذا استمرت الاضطرابات الجيوسياسية.
إيران تنتج سنوياً نحو 275 مليار متر مكعب من الغاز تصدر منه كميات محدودة بسبب العقوبات، وأبرز الصادرات الايرانية تتجه الى تركيا والتي استوردت نحو 7 مليارات متر مكعب العام الماضي، وبالتالي أي اضطراب في هذه الامدادات سيدفع باتجاه زيادة المنافسين على الطلب في سوق الغاز العالمي. اما بالنسبة للغاز الطبيعي الذي يتم ضخه الى الاردن ومصر من حقول الغاز البحرية والذي انخفض انتاجها بنحو الثلث مع بدء الحرب ما يخلق فجوة جديدة في إمدادات الشرق الاوسط.
ويقدر تقرير البنك الدولي (أبريل) (2025 أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستحقق نموا بنسبة 2.6% هذا العام، على أن ترتفع إلى 3.7% في %2026 4.19% في 2027 مستفيدة من زيادة الإنتاج النفطي والتوسع في الاستثمارات. لكن استمرار الحرب قد يقلب هذه التوقعات، ويؤدي إلى تباطؤ النمو في الدول غير النفطية وارتفاع كلفة التأمين والنقل، وتأجيل مشاريع استثمارية ضخمة في قطاعات مثل اللوجستيات والطاقة والتكنولوجيا.
التحليل الاقتصادي يُظهر بوضوح أن الحرب بين إيران ودولة الاحتلال تضعف الطرفين وتفرض عليهما كلفة عالية لا يمكن تعويضها بسهولة، سواء على مستوى المالية العامة أو استقرار الأسواق أو ثقة المستثمرين. ففي الوقت الذي يعتمد فيه كل طرف على أدواته الاستراتيجية إيران عبر الجغرافيا والطاقة، ودولة الاحتلال عبر التقنية والدعم الغربي)، إلا أن كليهما يتحرك ضمن هامش ضيق جدًا من المناورة، بسبب الضغوط الاقتصادية المتراكمة.
ومع أن اقتصاد دولة الاحتلال يظهر تنوعًا وقدرة على الصمود على المدى القصير، فإن هشاشة الوضع الأمني والضغط على البنية الاجتماعية قد ينتج عنها ارتدادات طويلة الأمد. وفي المقابل، تبدو إيران غارقة في مزيج من العقوبات والتضخم وفقدان البدائل، تجعل من استمرار الحرب تهديدًا مباشرا لاستقرارها الداخلي