للتغيير نعرج قليلا على الشعر ونطرق بابه، نستأنس به ولو للحظات، لكي نرمم به ارواحا اصابها الجفاف، واحتلها العطش.
في بداية ثمانينات القرن الماضي... وهنا نستدعي عصرا ذهبيا من الابداع، حيث كانت الكلمة مرآة الوجدان والهوية ، لحن وشدا محمد عبده للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم قصيدة جميلة بعنوان " يا مرحبا يا معنى خط الاقلام" وكانت هذه القصيدة تزخر بالحكم والعبر والمعاني، وتأسر القاريء والسامع بجزالة نظمها وعمق ورقة ومعانيها، ولا ٱبالغ عندما أقول انها حكاية نُسِجَت من خيوط الحكمة والبصيرة، وتحمل في طياتها دعوة للتفاؤل والصبر في مواجهة تقلبات الزمن...نالت هذه القصيدة المغناه انتشارا واسعا، وكانت سببا كبيرا بشهرة الفنان والشاعر ، كل هذا وغيره كان سببا بتوقد نار الغيرة الادبية المباحة عند الامير خالد الفيصل, وكان وقتها ينظم اشعاره بإسم مستعار وهو " دايم السيف" ونظم قصيدة بنفس القافية يعارض بها محمد بن راشد اسماها " من بادي الوقت"، فكانت قصيدة تسرد فلسفة الحياة بحلوها ومرها، تحمل في كل بيت تصويرا مدهشا لرحلة الانسان مع الزمن، ويقدم الشاعر عبرها فلسفة عميقة عن استيعاب تقلبات الايام بعين الحكمة والبصيرة...وطلب من الفنان محمد عبده ان يغنيها وبنفس اللحن الذي غنى بها قصيدة " يا مرحبا يا معنى" ...وقد كان...وانتشرت القصيدة والاغنية انتشارا واسعا وزادت بشهرة الفنان فوق شهرته، ومن بعدها اصبح الامير يكتب اشعاره بإسمه الحقيقي خالد الفيصل.
برأيي الشخصي اجمل بيت بالقصيدتين يحتوي على صورة شعرية جديدة مبدعة وخلاقة تتجاوز حدود الوصف المادي، هو بيت خالد الفيصل عندما قال:
تدفا على جال ضوه بارد عظامي
والما يسوق بمعاليقي ويرويها
الله الله ما اجمل هذا البيت، حيث كان نافذة تنفتح على عالم من الحواس المتشابكة، عندما يمتزج الضياء مع برودة العظام ورعشة الحياة في الاحشاء( المعاليق) بمجرد استقبال ضوء الحبيب في ليل موحش قارس في لوحة متناهية البراعة، يعبر فيها الامير عن تداخل شعور العطش وألالم عندما يكون متبوعا بالحياة والارتواء، هنا نجد كيف يمكن للشعر ان يكون جسرا بين اللحظة العابرة والدلالة الخالدة...
اكتفي هنا واليكم القصيدتين وأترك الحكم لكم ايهما ابلغ نظما واجمل عِبرا واعمق حِكَما.
يا مرحبا يا معنى...شعر محمد بن راشد
يا مرحبا يا معنى خط الاقلام
مثايل شوقتني في معانيها
حيا المثايل يا سلالة نسل الكرام
يا من بيوته عن الزلات يحميها
من داثر الوقت وهذا طبع الايامي
مرات تصفى ومرات الكدر فيها
كم واردا ظاميٍ صد درب الاحيامي
وكم وارد ٍشرب من صافي مغانيها
لا تنظر اللي مضى وتعد الايامي
ارعى ربيع الزمان أول لياليها
حلو الليالي تعوض مر الايامي
ما يحسب الوقت ويفكر في ماضيها
لو كان ما بي تقساه جفت أقلامي
من حرتي أبدع أنفالي واغنيها
ردار فكري يصورلي مضن زامي
في هندس الليل يوم أرتاح غافيها
يوم الخلايا تنام وفكرها نامي
حرام عيني لذيذ النوم يغفيها
حالي كما عشب صيف صابها الظامي
ولا كما وردة جفت نواديها
نار الغضى والتوقد في بحر طامي
خالد وعيا مولعها يطفيها
ريم رعى في الفياض وزهر الاوسامي
قائد خشوف الجوازي في مفاليها
بأرض محيله ولو توطى لها أقدامي
تزهى وتضحك لها الدنيا وتحييها
سود الليالي مع سالفات الايامي
نأخذ مقادمها ونترك لياليها
نمشي على درب ما تأطأها الاقدامي
وإن وعرت الارض يعجبني المشي فيها
يا خوي انا ريت رويان وهو ظامي
يا كيف عطشان في جاري سواقيها
ريح ضميرك ولو هيم بك هيامي
حقا على اللي جرح نفسك يداويها
يا مفطر الوقت هذا شهر الصيامي
وليلة القدر في أخر لياليها
يا زين هد الوحش بعض الايامي
في ديرة قفرت عسره مضاويها
أشقر طويل المعنق يبري أعظامي
صوايده من فنادي الصيد يدميها
يا شيخ هذا زمان كله أنعامي
الذئب جائع وشبعانه حصانيها
لو كان يبغى يغزر نابها الدامي
يا كيف تكسر جوارحها طواريها
وكل مخلوق في الدنيا فلا دامي
لابد تنهي مغازلها مطاويها
وأخر كلامي بحرف السين واللامي
والميم والعين تتلاها قوافيها
من بادي الوقت...شعر خالد الفيصل
من بادي الوقت هذا طبع الايَّامِ ..
عذبات الايَّام ماتمـدي لياليهـا
حلو الَّليالي تواري مثل الأحـلامِ ..
مخطور عنَّي عجاج الوقت يخفيها
أسري مع الهاجس الَّلي مابعد نامِ ..
وأصوِّر الماضي لنفسي وأسلَّيهـا
أخالف العمر أراجع سالف أعوامِ ..
وأنوَّخ ركاب فكري عند داعيها
تدفى على جال ضوَّه بارد عظامي ..
والماء يسوق بمعاليقي ويرويهـا
إذا صفالك زمانك علِّ ياظامـي ..
إشرب قبل لايحوس الطَّين صافيها
الوقت لو زان لك ياصاح مادامِ ..
ياسرع ماتعترض دربك بلاويهـا
حتَّى وليفك ولو هيَّم بك هيـامِ ..
سيَّور الايَّام تجنح بـه عواديهـا