القيادة بالحب .. فلسفة تربوية بروح الأمومة
د. تسنيم نبيل شقورة
29-06-2025 01:07 PM
في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم في ميادين العلم والمعرفة والتكنولوجيا، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في أساليب القيادة، خصوصًا داخل المؤسسات التربوية. فالقيادة لم تعد مجرد توجيه وإدارة، بل أصبحت فعلًا إنسانيًا عميقًا، يتطلب وعيًا نفسيًا واجتماعيًا، وتواصلاً عاطفيًا يعزز من فاعلية العمل التربوي ويمنحه روحه الحقيقية. ولا تكتمل معادلة النجاح بمجرد وجود الخطط والسياسات التربوية، بل تحتاج إلى قائد تربوي يملك قلبًا حيًا، وعقلًا حكيمًا، وروحًا محبة يتعامل مع فريقه بروح الأم واحتواء المربي.
من هذا المنطلق، تبرز نظرية القيادة بالحب كأحد الاتجاهات الحديثة في مجال القيادة التربوية، والتي تتماشى مع التطورات العالمية واحتياجات الإنسان المعاصر. هذه النظرية، التي طورتها الباحثة كاثلين سانفورد، تقوم على مبدأ أن الحب، كما هو في فطرة الأمومة، قادر على إحداث فرق جذري في بيئة العمل، ورفع مستوى الأداء، وتعزيز الانتماء داخل المؤسسة.
وفقًا لسانفورد، فإن إخفاق النظريات الإدارية في بعض المؤسسات لا يعود إلى خلل في مبادئها أو أدواتها، بل إلى غياب الجانب الإنساني فيها، وتحديدًا افتقارها للحب والرحمة والذكاء العاطفي. فالحب، في هذا السياق، ليس مجرد شعور، بل هو "العصا السحرية" التي تنقل المؤسسات من الجمود إلى الحياة، ومن الانقسام إلى الانسجام. وإن بناء علاقة ودية متبادلة بين القائد والمعلمين لا يعني التراخي أو غياب الانضباط، بل يعكس أرقى صور التقدير والاحترام، ويمنح العاملين دافعًا داخليًا للعمل بصدق وإخلاص. فالحب هنا ليس عاطفة عابرة، بل استراتيجية إدارية قائمة على التفاعل الإنساني وتعزيز الثقة بالنفس، مما يؤدي إلى تحسين الأداء وتنمية الإبداع والابتكار داخل المؤسسة التربوية. فالقيادة بالحب لا تعني التساهل، بل هي كما الأم الرحيمة، التي تقسو بحب، وتوجه بحكمة، وتربي على القيم والانضباط دون إقصاء أو تمييز. هذه الفلسفة تخلق توازنًا صحيًا بين العاطفة والواجب، بين الحزم والرحمة، بين النظام والمرونة.
فالمؤسسة التربوية التي يُدار فيها العمل بروح الأمومة، ويُحتضن فيها العاملون بالحب الصادق، تتحول إلى بيئة محفزة، مبدعة، ومتصالحة مع ذاتها ومحيطها. فالمعلم الذي يُعامل كإنسان أولًا، لا كأداة تنفيذ، سيكون أكثر التزامًا، وأشد ولاءً، وأكثر قدرة على التأثير الإيجابي في طلابه ومجتمعه. ومن هذا المنطلق، فإنني أؤمن بأن القيادة بالحب ليست أسلوبًا بديلًا، بل ضرورة معاصرة لإعادة الاتزان إلى المؤسسات التربوية التي باتت تعاني، أحيانًا، من جفاف المشاعر وضعف التواصل الإنساني.
إننا بحاجة ماسة لنهج يُعيد للتربية دفئها، وللمؤسسة مرونتها التي تدفعها نحو الريادة والعالمية.