المهارات الناعمة كأفق إنقاذي للتعليم العالي في الأردن
د. جاسر خلف محاسنه
01-07-2025 11:51 AM
كأننا نعيد ترتيب الواجهات في مبنى يحتاج إلى مراجعة تصميمه من الأساس. هذه الصورة تختصر ما يحدث حين يُطرح موضوع ربط التعليم الجامعي بسوق العمل في الأردن. إذ تُطرح المبادرات وتتغير أسماء البرامج، ويُسلَّط الضوء على التعليم التقني بوصفه حلًا واعدًا، بينما يبقى الأساس المعرفي والتربوي للتعليم الجامعي على حاله. وتستمر الفجوة بين الخرّيج والسوق، وتتسع الهوة بين الكفاءة المطلوبة والتكوين الفعلي للطالب.
تكشف التجربة البحثية والميدانية، خاصة في قطاعي الهندسة والبناء، أن المهارات الناعمة تشكّل حجر الزاوية في جاهزية الخريج لحياة العمل. التفكير النقدي، والتواصل، والعمل الجماعي، وحل المشكلات، والانضباط الذاتي، كلها عناصر تُعزز قدرة الفرد على التكيف، وتحفّز قدرته على الإبداع والمبادرة. وحين تتوفر بيئة تعليمية ترعى هذه المهارات، يصبح التعلم أكثر ارتباطًا بالحياة، وأكثر قدرة على إنتاج أشخاص مؤهلين للتفاعل مع التحديات.
و تتصل جذور التحدي في الأردن بسياق تاريخي وفلسفي واسع؛ إذ نشأ التعليم الجامعي في مناخ تمحورت غايته حول التحصيل الأكاديمي والتأهيل الوظيفي التقليدي. ونما في إطار يضع الحرفة والمهنة في مرتبة أدنى من الفكر النظري، فتعزز الانفصال بين التكوين العلمي والسياق العملي. كما ساهمت طبيعة السياسات المركزية، وتقييد صلاحيات التطوير داخل الجامعات، وتعقيد أنظمة الاعتماد، في إبطاء الاستجابة للتغيرات السريعة في بيئة العمل. ومع غياب آليات تفاعلية بين الجامعات والقطاعات المنتجة، بقيت العلاقة بين التعليم والسوق خجولة وموسمية.
وفي هذا السياق، أُطلق التعليم التقني كخيار إضافي يحمل وعودًا كثيرة. وفي بعض التجارب، برزت نماذج ناجحة ومتكاملة. لكن بقيت الحاجة قائمة لتطوير برامج تقنية ذات صلة مباشرة باحتياجات الاقتصاد المحلي، ومرتبطة بمنظومات تدريبية حقيقية، تقوم على شراكات واضحة مع القطاعات الإنتاجية، وتُقيَّم بطرق تركز على الكفاءة والسلوك المهني، لا فقط على المخرجات الورقية.
التحدي الحقيقي لا يتعلق فقط بتوفير فرص العمل، بل بتكوين الفرد القادر على خوضها، وإعادة التكيف معها، وتطوير ذاته ضمنها. الإنسان الذي يمتلك مهارات ناعمة متينة يكون أقدر على التعلم المستمر، وعلى تحويل المعرفة إلى أثر. هذا الإنسان لا ينتظر الفرصة، بل يسهم في صناعتها، ويقرأ التغيير بوصفه مساحة للنمو.
إن مستقبل التعليم في الأردن يرتكز على إعادة تعريف وظيفة الجامعة كمكان لتكوين الوعي، وصقل المهارة، وإطلاق طاقات الإنسان. حين تؤسس البرامج الأكاديمية على المهارات الناعمة بوصفها أدوات أساسية للحياة والعمل، تتسع أفق الخريج وتتعمق قدرته على التفاعل مع واقع دائم التغير. الجامعة التي تزرع في طلابها القدرة على التفكير والتواصل والمبادرة، تُنتج خريجين فاعلين. وحين تصبح المهارات الناعمة نسيجًا أصيلًا في التجربة الجامعية، يصبح التعليم مسارًا حيًا نحو المستقبل، يفتح الأبواب، ويجعل من الإنسان مركزًا للتنمية.